عبده البرماوي يكتب: العيش والتأسيس للحرية

وقعت عيني على معلومة طريفة ومدهشة وأنا أطالع نصا عن الثورة الفرنسية، أتى على ذكر من أسمتهم البرجوازية المحافظة بـ\”عراة المؤخرة\”. التسمية الساخرة لم تخف دور الموصوفين بها من أصحاب الوجوه المغبرة والملابس المهلهلة، إذ أنهم من حول انتفاضة الفرنسيين إلى ثورة حقيقية. هؤلاء الذين لم يجدوا ما يسد جوعهم ويستر أجسادهم، هبوا من قلب تلك المعاناة، وقلوبهم قد ارتوت بجرأة التحدي، ضد الملك وحاشيته وإقطاعييه وحرسه. وقد ملكنا مثل هؤلاء المعوزين المغبونين في مجتمع تصنف حكومته أكثر من ثلثه كفقراء، بمعايير هي أقرب للفقر المدقع. دلف هؤلاء من باب الثورة الواسع، باب العيش. ورغم أن ما حفزهم على الخروج ضد مبارك هو الحاجة، وإلحاح العوز، وفروا وقود الثورة وقوتها الحاسمة، وكانوا في المقدمة كأقرانهم ممن هدموا حصون الملكية الفرنسية العتيدة في تمييزها وقهرها. وكما قدم ثوار باريس التضحيات التي منحت المعنى لشعار الثورة الفرنسية الأكثر تجريدا، المنادية بالحرية، والإخاء، والمساواة، فعلها فقراؤنا. لكن ما لم يفهمه نخبويونا المتهوسون بالرمزي والمحتقرون للمطلبية المادية المتعلقة بالعيش، أن الأمر في الحالة الفرنسية لم يكن صفقة رابحة وحسب، بين فئة الثائرين المنشغلين بالمادي، وهم الكثرة الغالبة، وبين تلك النخبة المنشغلة بالرمزي وصياغته. كان للأولى الصوت الأعلى، بوصفها صاحبة المصلحة الأعرض، ومن نضالها حِيْز للثورة الانتصار، وانجزت أهدافها الأولى؛ سواء المادية منها أو الرمزية. ولم تنتكس الثورات وتنهار مساراتها الواحد تلو الآخر إلا حين اختلت القسمة؛ اختلت حين سعى قطاع من نخبة الثورة لعزل سهم المطالبين بالعيش والستر عن المطلبية الثورية العاجلة. كانوا بهذا يسلمون الثورة لمجهول، أو بالأحرى يمهدون للثورة المضادة ويسهلون انتفاضها من ركام غضبة الجماهير في يناير. من أنكر حقيقة أن الثورة، أي ثورة، هي فعل المظاليم بامتياز، وأن إنجازها لا محالة يتم بهم، ولأجل أهدافهم المادية بالأساس، هو نفسه من دفع الجماهير لأن ترتد على عقبيها، لتقف حائرة في مساحة بين التردد وتفضيل الانتظار أو النأي عما رأوه معركة في مربع مربك، ربما لا يفهمونه ولا يجيدون ألعابه، كما لا يحسون بارتباطه الواضح بما انتفضوا لأجله.

كان اقتناص مطلبية العيش بفرض نظام عادل لتحصيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يلخص في أذهانهم معنى النضال التحرري. وفي ظني منطلقهم هذا – الذي حقر بعضنا منه – هو فهم معتبر لمسالة الحرية. إذا فهمنا الحرية على أنها حد من كل قيد أو انتهاك أو استغلال يبخس من إنسانية الفرد، فقد فهمها هؤلاء الفقراء المغبونين بنفس المعنى؛ وإن فضلوا آلية للعمل تتفق وما اعتبروه حدا على حريتهم. وكانوا يقينا يفهمون أن فشل السلطة في القيام بدورها ككافل لهذه الحقوق، وصاحبة مسؤولية أصيلة في اقرار القانون وحكمه، يستحق خروجهم عليهم من أجل الإصحاح، فغن لم تنصلح فالخروج الهادر الذي يحطمها ويخلق بديلا عنها، سيكون السبيل لإنجاز \”منظومة الحرية\”. والناس لا يختلف أمرهم في هذا النضال؛ إذا ما كان دافعهم لتحدي السلطة هو إخلالها بأمر مادي أو أمر رمزي. في الحال المصري، كان من العبث أن يغمض على نخبة الثوار فهم طبيعة الحرمان وضغط أوضاع التفاوت المذلة، وكان من خيانة البرجوازية أن تنجرف لعمل واسع لصالح بنى رمزية مغوية لذائقتهم الثقافية، فيما يهملون ما اعتبروه انحطاطا ثوريا، بالتزام أولوية العيش والسعي لكسر قيود الحرمان.

كانت الثورة مشروعا ساميا للتحرر، يناسب أصحاب المظلمة الاقتصادية وضحايا التمييز الاجتماعي، وكان طبيعيا أن صدروا نداءهم الأول الذي زلزل الميادين بالعيش، وألحقوه دون فاصلة بأخواته حرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، كصفات ملازمة. وبوعي جلي لا التباس فيه، آمنوا بمطلب تحصيل العيش، المتصف بالعدل والكرامة، قاسما مشتركا أعلى لثورة يناير. لم يكن هذا الأمر تراتبية تحكمية، بل كان يعكس منطق الأشياء في مجتمع تعيش غالبيته العظمى في حال مدقع، وتتقلص طبقته الوسطى بحدة، لصالح أقلية ترعى في النعيم. والأمر أبعد من مجرد رغيف خبز يسد جوع هؤلاء؛ فهم لا يقبلون \”لقمة الذل\”، وفتات موائد النهابين. من أجل هذا ألصقوا بهتافهم لأجل العيش لفظة \”الكريم\” لتصبح خميرا لهذا الخبز، لا يتصورنه دونها. الكرامة ههنا مفهوم مركب، يرسم معنى للعيش المبتغى، يشمل بين ما يشمل الوقاية من تعرية الروح لأجل حاجة البطون. لقد فهم الثائرون – أبناء التجربة القاسية – أن تعريض الجسد للمهانة هو بذاته جوع.

لكن الرمزيون آثروا المضي في المغالطة المغرضة التي تستثمرها قوى الثورة المضادة، والتي تقول بانفصام مطلب الخبز عن مطلب الحرية. وأنبرى -للأسف – بعضنا من المحسوبين على الصف الثوري، للتعمية على أولوية هذه المسألة. وطفقوا ، في غمرة موجة الانتشاء بالنجاح عقب إسقاط مبارك، يرمون المطالبين بالعيش، بوصمة التعجل. كانت تلك ضلالة ثورية، تصورت التحرر من الفاقة والعوز نأي عن دائرة مشروع الحرية الذي أنتجته يناير، ومن شأنه تعطيل مسيرتها. وزعم بعضهم أن المغبون لا يستطيع أن يعقد الصلة المنطقية بين معاناته وبين إمكانيات إنجاز الحرية. وهكذا، طولب الفقير بالصبر على جوعه، في حين استغرقنا في الصراع على الكرسي ومواد النص القانوني وجدالات التعديل المنظومي في مربع السياسة، دون الانتباه لقضايا التوزيع، وتهجسنا بأن السلطة يمكن أن ترمي رشوة اجتماعية قوامها فرص عمل تافهة، وبعض الزيادات في الأجور. وتجاهلنا العوامل الموضوعية التي تقول باستحالة الاجابة عن مطلبية العيش دون تفكيك قواعد التحالف الاجتماعي الذي يعزز هيمنة القلة على الثروة وقواعده التوزيعية. وكانت النتيجة أننا لا قربنا من انجاز مطلب الفقير المعوز، ولا حققنا في مربع السياسة رسما جديدا لعلاقات القوة والسلطة. وبتنا نشعر بالضيق من تراجع دور المغبونين، جمهور الثورة الكبير، الذي آنف النضال في مربع للسياسة استحال ساحة لعب تؤمها النخب، لا تنتهي لإنجاز مطلبه ولا تفكك قواعد الهيمنة والاستغلال. وعجزنا أن نفهم لماذا انسحب بغضبه، ولماذا مضى تلفه الحسرة على حلم حلق في الميادين وكاد أن يقبض عليه بكفه.

إذا ما جاز لنا تلخيص الثورة في كلياتها كـ\”مشروع من أجل السعادة للجميع\”، فلن نكون قد جاوزنا منطق الأشياء بحال. لأن السعادة تتأتى من تحصيل المادي بقدر ما تتأتى من تحصيل الرمزي. حين نتجاهل الأولى متصورين الحرية الرمزية كحقيقة، نتجاهل حوافز من كانت لهم تطلعات مادية سعوا بالثورة لتحصيلها.

وحري بنا ههنا، وقبل الختام، أن نورد صنوا لهذا التصور الفاسد عن أولوية الرمزي على المادي، وهو خطيئة النظر للجماهير (الفقراء الغاضبين) كمحشود. تصور بعضنا عن جماهير ثورة يناير ككتلة صماء غير معينة، تظهر ككساء لأراضي الميادين، تهدر بصوت الغضب وراء الهاتفين، فيما لا تسمع مطالبها المباشرة الصغيرة. والإصرار على ألا تحضر إلا إذا استدعيت، لغاية افزاع نخبة النظام القديم في صراع حدوده هي الرمزي. الآن ندرك أن وصم الجماهير بأنها \”فوضوية\”، و\”غبية\”، و\”عقلها في ودنها\”، و\”بتعرف تهدم لكن ما بتعرفش تبني\”، و\”لازمها عقل يوجهها\”، و\”همها على بطنها\”، كانت مجرد مقدمات مخاتلة وخبيثة لاجتزاء حق أصيل لغالبية الثائرين في رسم مسار الثورة. الحق في تحصيل المادي هو ما جاءوا لأجله، وما عزز قيامهم بكسر آلة القهر واسقاط الديكتاتور عن عرشه. أما أولاء الذين ادعوا احتكار تحديد ماهية الثورة وغاياتها، فقد عوقبوا حين غاب الناس، وحين دارت نضالاتهم بعيدا عن المعنى التعددي لمطلبية الجماهير، المحصور في آجندة تغيير ضيقة الأفق ومنخفضة السقوف.

اليوم ندرك بعد نجاح الثورة المضادة في استعادة قواعد النظام القديم، أن حدس الجماهير كان صحيحا. فما ذهبوا لهدمة من منظومة للنهب والاستغلال عاد لسابق عهده، بل وأفدح، فيما آلت الصراعات على المجال السياسي لهزيمة كاملة للفصيل النخبوي الرافع لشعارات الديمقراطية بمعناها الضيق المحدود.

اليوم أدرك بعضنا أن آجندة الحرية المقتصرة على تغيير قواعد المجال السياسي دون قواعد التوزيع للثورة والمكانة لا تنفع، ولا تسمى ثورة. تلك الرغبة النزقة التي هيمنت على تصورات سياسيو الانتقال، وحادت بهم لاستمالة رأس المال، متجاهلة أنه صاحب مصلحة أصيلة في الدفاع عن مكاسبه، التي حصلها من الفساد الواسع، في تعزيز وتمويل الثورة المضادة، هي جزء من أخطائنا. رأس المال الاحتكاري وقطط عصر مبارك السمان هم بالأساس سبب المظلمة، ومن هتفنا ضده بمطلبية العيش، التي تعني في الأخير الاقتطاع من ثرواتهم، ورسم آليات جديدة وفعالة تعيد التوزيع على حسابهم ولصالح المغبونين.

لا مراء أن سعدت قوى الثورة المضادة حين انتكست أحلام الهاتفين بالعيش الكريم، وعززت مواقع نهابي النضالات، ليزداد مع بروزهم الكفر بالثورة. والعجيب أن نفرا من هؤلاء الذين تصدوا لأحلام الفقراء ودفعوا لتأجيلها ومالئوا رأس المال كانوا يرفعون أقنعة الماركسية والاشتراكية. فرية مدهشة تبصق على فهم ماركس ولينين نفسيهما لقضية \”التحرر من الفقر\”، بوصفها قلب الثورة. هكذا كان التعالي على الناس واحتياجاتهم وتطلعاتهم البسيطة المدخل الأبرز لوأد الثورة، وإخلاء الساحة لبضع آلاف من الصاخبين الذين تحفزهم أمور هوياتية مختلقة، وأفكار نظمية مجردة، تتجاهل أولوية إعادة ضبط البنى التحتية، وإيجاد معادلة عادلة لتوزيع أنصبة المشاركة في عوائد عملية الإنتاج، كباب تحرري في مجتمع يعتصره الفقر.

هل ثمة قيمة لأن نوضح كيف أن \”الحاجات البسيطة\” و\”الفئوية\” استخدمها قوى الثورة المضادة لإفساد الثائرين من أجل العيش، وإشعارهم بالذنب، ودفعهم للندم أن هتفوا يوما في الميادين ضد المنعمين بالثروة. ابتزاز عنيف، شاركنا فيه بأنفسنا حين سمحنا للدولة العتيقة العميقة الماهرة في التفاوض في ملعب السياسة، أن تشاكلنا بعيدا قضية العيش، وأن نغض الطرف أمام كروت الكسب السياسي على المائدة التي تجاهلت ما جمع يوما الأطباء المضربين في المستشفيات العامة، بالعاملين في قطاع الضرائب، بعمال الغزل، بسائقي النقل العام، بمعلمي القطعة والتعاقد المؤقت، للمديونين من الفلاحين. هؤلاء لم يكن على مائدة التفاوض والتصارع طوال المرحلة الانتقالية مشروعا حقيقيا للتغيير يعكس نظرتهم لدورهم في الثورة. وضجوا من أن يبقوا كمجاميع محشودة، وكومبارس ثوري.

الثورة الجديدة التي نأملها عليها أن تصالح العيش والمطالبين به. عليها أن تدرك أن مدونة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تنفصم عن الحريات المدنية والسياسية ولا يجب أن تؤجل لصالحها. فتلك مراوغة أفضت بنا لمربع الصراع الهوياتي الخبيث، ولألعاب النخبة في توزيع المنافع والاغواءات. وأن تفهم أن خلق بنية تحتية للثورة لا يتأتي دون ثوار يلمسون مكسبهم المباشر والواضح من الثورة، ويدركون أن الأمر مترابط بين هذا المكسب وضمانات استمراره عبر انشاء آليات سياسية تحكم ذلك وتضمن لهم ألا يفتأت أحد مستقبلا على هذي الحقوق. لا تصفوهم ثانية بعراة المؤخرة، واسمعوا هذا الصوت الهادر القادم ثانية من تونس يهتف بشعار \”العيش\”. لطالما كانت الإجابة على أسئلتنا هي تونس. فهل نسيتم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top