احب من الأصوات كثيرا صوت الشيخ المنشاوي، محمد صديق المنشاوي. الصوت الذي يندفع في تقسيم الحروف على النبرات وتوزيع التاءات والهمزات والقافات على أطراف اللسان. فيسحبني ولا اجد بدا من الذوبان معه.
قد انصت، وقد اكتفي بالاستماع. فلا يُلهيني انشغالي بغيره عنه، لأنه يمر إلى صميم القلب فيذيب ما به من جفاء. ويحرك الكثير مما هُجر هنا بالقاع الصدئ لذلك القلب الموتور، قلبي.
إن هذا الصوت هو تماما ذلك الصوت الذي تلا به جبريل وحي الله على محمد حين تلاه في الغار وتحت النخيل. هو بالذات ذلك الصوت الذي قال عنه محمد لعائشة إنه كصلصلة الجرس. وفهمها المغفلون على أنها صلصلة جافه حادة قارسة، إلا أنهم هم القساة، ولكن لا يعلمون. فتلك الصلصلة، هي ذاتها التي ترن في نبرة شيخي المنشاوي. الصوت الذي يرتل في إذاعة القرآن، ما تيسر من سورة النجم، في صباحات الجمعة، وإبان الفجر، إذ يأخذنا السهر للاستذكار ومتابعة الأعمال.. إنه هو الصوت الحارس لنفوسنا رغم كل شئ.
في السيارة، أثناء السفر، كان أبي يُشغل قرآنا غير القرآن، لم اشعر أبدا أنه كالقرآن الذي يقرأه المنشاوي، كان قارئه سعودي اللهجة، وكان يمط الكلم والآي مطا مريرا، يحول بيني وبين فهم ما ينطق به.. كنت اتأدب فقط لأنه قرآن، ولأن القرآن حين يقرأ، لابد أن ينصت له المسلمون. أما في قرارة نفسي، فمزح ونكات كانت تطرقع مستهزئة مستهترة بلفظه لآيات الكتاب، فكانت تلك البسمه الخافته تفلت من بين شفتي فجأة، فأخفيها سريعا. وإن لاحظها أحد، اتعلل بأنني تذكرت شيئا ما اضحكني.. اكتم الضحك وامنع انفجاره بأن اعض على شفتي، فالألم يطغى على الضحك، والفرحة وكل شئ في هذا العالم.
طالما كنت املك في قرارة نفسي شعورا بأن صوت المنشاوي هو ذاته القرآن.. كتعريف حدي، لا مساحة للون الرمادي فيه، فحين يقرأ القرآن بتلك الطريقه (التي ارجح أن تكون طريقة المصريين)، فهو قرآن، وما عدا ذلك فهو ابتهالات وتهريجات وأمازيح. ربما لأن صوته هو الذي كثر ما سمعته في طفولتي.. ربما لأن الأصوات لا تُثير فينا ما تُثير إلا في إحدى حالين، أن تُذكرنا بماض نشتاق ونذوب إليه، أو أن تأتينا ونحن جفاة أو مهجورين، أحياء كالأموات، حينها ترد لنا أيا من الأصوات التي نسمع، كثيرا من الروح التي تزول عمن جفت أحاسيسه.
اذكر هنا ما قالته \”آنا فرويد\”، بخصوص الكلام واللغة وحب الأصوات والموسيقى عند البشر عموما، بأن هذا الحب هو امتداد دائم أزلي للحظة التي تحمل فيها أم رضيعها على ذراعها أو تضعه في حجرها، ثم تطلق أيا من الأصوات الأموميه للمولود. تقول فرويد إن الرضيع حينها، ينام ويغلق عينيه على رغبته الأزليه في أن تبقى نبرة صوت أمه ترن هكذا إلى الأبد، لأنها الأمان، ولأنها مخصوصة له، والأهم، لأنها التأكيد القطعي بأنه على قيد الحياة.
كل البشر يتلذذون بتلك الحرارة في قلوبهم حين يستمعون إلى صوت، إلى رنين أحبال صوتية في صندوق الحنجرة.. حين يستمعون إلى تتالي طرقات على لوح خشبي، أو موجات الصوت تندفع من مكبر متصل بثمة جيتار، إلى ضوضاء متسقة تخرج عن حركة ميكانيكية تدور في مكان ما. كلنا نشده وننتبه، ربما، لأننا مازلنا مأخوذين بالأمان والدفء الذي أحسسنا به أيام الرضاعة والرغد.
في معسكرات الصاعقة، حيث قضيت ما لا بأس به من خدمتي، اتوا مرة بفرقة تعزف الموسيقى العسكرية.. اللحن العسكري جاف وحاد، لكنه لحن، والأدوات التي سيستخدمها المزيكاتية العسكريون (الذين يرتدون حلات عسكرية كذلك، ويزين تراب الوطن أحذيتهم أيضا كباقي رجال الجيش) أدوات موسيقية، سكسافون وطبله ومزمار وطبول صغيرة وطبلة وحيدة ضخمة يمتد دبيبها عدة كيلو مترات في الصحراء الشاسعة.. استيقظت يومئذ على هطول \”كباية\” الشاي على أرض الدوشمة (العنبر تحت الأرض يُسمى دوشمة)، لأن كل شئ كان قد بدأ في الاهتزاز، فحفل تخريج إحدى الدفعات قد بدأ للتو، والخطوة العسكرية لألف أو ما يزيد، تستطيع أن تهز أرجاء المنطقة بالكامل، وخرج فجأة، من غير إنذار بخروجه، صوت فض بكارة الصمت الصحراوي الرتيب.. صوت خرق آذاننا كصور يوم البعث، ففغرت أفواهنا وانتبهنا، ومرت في عروقنا نشوة خاصة جدا. بحثنا وتفرسنا عن مصدر الصوت الرائع القوي. تلفتنا يمينا ويسارا، ثم إلى الأعلى! إن الصوت قد جاء من الأعلى.. خرجنا متسربين. ولما تلقينا أول شعاع شمس إبان صعودنا درجات السلم الذي يقود من الدوشمة إلى مستوى الأرض، كان \”البكباشي\” قد تابع النفخ في آلته الضخمة، فانطلق لهيب الصوت مثل كورال كنيسة في عيد الميلاد، ولقد احرق الأتربه والرمال التي تكدست حول أعناقنا.
رأينا في الخارج غبارا وأتربة، نتجت عن دبيب خطوات المشاركين في العرض. ولاحظنا أعلام الشرطة العسكرية في المحيط، والأهم، أني لاحظت -ولا أدري إن كان غيري قد لاحظ- أن كل الجنود المختبئين في كل الدشم، قد خرجو في نفس التسلسل وبنفس التوقيت، مثل وحوش برية مختبئة في جحورها، خرجت لاستقبال الربيع، في وداعة لا تليق بوحوش، لكنهم مطبوعين على استحسان الجمال بفطرتهم.
قد يبدو هذا الوصف كليشيهي لحد بعيد، لكن الموسيقى يومها كانت كما ربيع الصحراء.. الصحراء الشاسعة المحفوفة بالأفق والمنكسرة أسفل شمس لا تنكسر، والمضروبة بصقيع الليل، التي لا ربيع فيها، فكلها فصل واحد، حار يحرق، وبارد يقشف الجلود، وماؤها لا يُشرب، لكن الموسيقى التي عُزفت يومئذ، فجرت ينبوعا من المسرات في تلك الصحراء البرية القاسية.
لقد شرحت لي تلك الموسيقى الكثير عن الدور الذي كان يقوم به رجل يرتدي عمامة كبيرة بعض الشئ، يجلس متربع الساقين أمام حية، يحرك أصابعه، وينفخ بكل عزمه ليصدر لها تلك النبرات.. لقد كانت الحيات والصقور من فوقها في السماء، تستحلي صوت الربيع في مزمار ذلك الرجل، ونحن كذلك يومئذ، لما انتبهنا وصعدنا إلى الشمس، فلم نجدها شمسا، بل وجدناها شيئا ناعما! شيء يرقص لتلك النغمات التي طافت في فضاء هذا الصباح.
ما هذه القصة الطويله التي تحكي عن طبول وأحذية ونخيل وجنود؟! ما الذي أوردها هنا بعد سطور تحاكت بنغمات تلاوة القرآن؟! المنطق وحده لن يجيب أبدا عن تلك التساؤلات.. أبدا لن يفعل، فالشئ المسئول عنه هاهنا هو مما حيل بينه وبين المنطق، تماما كالموسيقى.. هو ذلك الحس الحيوي، الذوق الذي يتدفق في دمائنا.. هو تلك الحرارة التي تربطنا بالحياة والتنفس، وهذا المنظر الخلاب من فوق التلة القريبة من قريتنا، وأمواج البحر.. هذا هو ما يربط صوت الرب في قراءة المنشاوي، بدقات طبول عرض عسكري.. الحياه، التي يقدرها المحرومون منها أكثر بكثير مما يفعل غيرهم.