لا أعتقد أننا كنا فى يوم من الأيام متقبلين لفكرة الاختلاف الدينى حتى فى أكثر الأوقات تفاعلا مع الآخر، دائما فى أذهاننا أنا مسلم وأنت مسيحى وبالعكس، فى مجمع المونتاج حيث كانت حجرات متلاصقة لفنانى المونتاج فى مصر، كانت حجرة المونتير القدير الراحل عادل منير، يتجمع فيها أهل المهنة، يتسامرون ويتبادلون النكات، دخل عليهم سينمائى وجد، داوود عبد السيد، أنسي أبو سيف، جميل عزيز، عادل منير، عادل شكرى، مجدى كامل، قال الزميل ضاحكا: أنا داخل مطرانية بقى! يقهقون جميعا.. يبقى أنا مندس فى وسطكم بقى. يتضاحكون، تعال ندقلك صليب ونخلص.
الضحك فى مثل هذا الموقف لا ينفى الإحساس بالاختلاف وإن كان يتندر عليه ويظهره فى صورة الاستعداد لتقبل الآخر. ويبقى للأسف ما فى القلب فى القلب. حيث فى جلسات مغلقة نتحدث نحن المسلمون كيف يتضافر المسيحيون ويشغِلوا بعضهم. وعند منح الجائزة ترتفع النميمة، فلان طبعا اللى هياخدها هيجامل القبطى اللى زيه. وماذا أفعل أنا وسط كل هذه الأجواء؟!
وكأنى أشعر بالذنب، أجدنى أصادق مسيحيات فى سمة من غرور النفس، لأوهم نفسى أننى قادرة على كبت تعصبى وعلى إعلاء قيمة التسامح بداخلى. وأعتقد أن كثيرين منا يفعلون نفس الشئ، شعور التفضل هذا الذى يجعلنا نخاطب المسيحى فى عبارات التهنئة بالإخوة المسيحيين وكأننا نتفضل عليهم بأخوتنا التى غالبا ما تكون زائفة وستظهر حقيقتها عند أول محطة يتفوق فيها أخى أو أختى مهنيا عليّ، عندها يعود إحساسى الكامن بالتفوق، ألسنا خير أمة أخرجت للناس؟ نشأت وعشت فى أجواء تسيطر عليها فكرة مدنية الدولة حقا، لم تكن أسماؤنا دالة بشكل فج على انتمائنا الدينى، كنا عادل وسعاد، صفاء وسمير.
منذ التسعينيات تغيرت الأسماء فى الطرفين، إسلام وعبد الله وصهيب، صهيب كيف؟ وعلى الطرف الآخر، مينا وبطرس وجوزيف، وأندرو، أندرو كيف؟ تسلح كل منا بعنصريته وأصبحنا جميعا فى موقف الدفاع، أنا مسلم وموحد بالله، أنا مسيحى مع الله ذلك أفضل. تورمت حجرة فى أمخاننا متحفزة للحكم على من نقابلهم، وأصبحنا نقول مسيحى بس كويس، مسلم بس زينا، ولم نكتف بهذا، بل انقسمت الأغلبية المسلمة إلى مسلم سلفى، ومسلم معتدل، وإخوانجى، ولا دينى، عفوا كافر فى عرف الجميع. بدون أن يكون لدينا شيعة واضحون، نحن فى انقسام حقيقى عبر عنه نجم فى قصيدته: \”يعيش أهل بلدى، وبينهم مفيش، تعارف يخلى التحالف يعيش، تعيش كل طايفة من التانية خايفة وتنزل ستاير بداير وشيش\”، وقتها كانت الخلافات طبقية، أغنياء وطبقة وسطى ومعدمين، الآن تشعبت الطوائف، وأخطرها هذا الانقسام الدينى بين مسلم ومسيحى وأصبحنا نتقول بعنصرى الأمة ويا له من جحيم!
أبى وأمى كانا متدينين دينا وسطيا جميلا، كنت أنام بعدما يروى لى والدى قصة من قصص القرآن الكريم، يجلس بجوارى على السرير ويحكى لى، عن يونس وسيدنا نوح، ولما حكى قصة سيدنا يوسف أسرتنى بها صورة سينمائية عن النساء اللاتى قطعن أيديهن، أصبحت أطلب سماعها كل يوم. ماما كانت تصلى بنا فى البيت صلاة جماعة وتدعى ونحن نردد وراءها. الله يا ذا المن والإكرام. كنت أقف عند ذا المن واسمعها \”زالمنى\”، اسأل معناها إيه؟ يشرحوا لى بعد ما ننتهى أنها تعنى يا صاحب النعم، وكنا نسمع اليمام. يرتل. وحدوا ربكم. كوكوكوه كوكو، هذا هو الدين الذى عرفته فى صغرى ونحن مع ماما وبابا فى بلدتنا قويسنا منوفية، وكان بها مسيحيون كثيرون، أصدقاء وجيران لنا، دائما كانت لى صاحبة مسيحية عادة يكون اسمها \”مرفت\” فى ابتدائى بقويسنا وفى إعدادى فى القاهرة. نذهب معا إلى المدرسة سيرا على الأقدام ونتبارى فى سرعة إلقاء النصوص أو سرعة حل مسائل الجبر، ليس حنينا إلى الماضى، ولكن مصر الستينيات كانت جميلة حقا. وتديننا كان مستمدا من الرحمة والمحبة. والآن، أعمل على أن يكون لدى نوع من الإيمان الخاص ويقظة الضمير الذى أحرص على أن يحاسبنى كل يوم وكل ساعة عما فعلت، وحين أواجه ضميرى هذا أجدنى عنصرية، وسط مناخ أصبحنا فيه كلنا عنصريين.
أعترف أننى عنصرية.. تزعجنى رؤية المنتقبات، وغير قادرة على التسامح مع رغبة البعض بالتشبه بثقافة بلد متخلف ورجعى لمجرد أن الرسول خرج من منطقتهم. أعترف أننى عنصرية مع شخص يسير بالسواك ويدعك به أسنانه فى الطريق، وأمام تظاهرة شاركت بها، ضد دستور الإخوان كنوع من التحدى لنا. أعترف بأننى لا أتسامح مع موظف يترك مكتبه أو موقعه المهني وحجته الصلاة، وهو ما حدث معى بمستشفى القصر العينى، حيث يتغيبون كثيرا والحجة جاهزة: \”بيصلى وراجع\”، أنا عنصرية لأنى لا أشعر بنفس الاستفزاز لو تغيب الموظف ليعد لنفسه كوبا من الشاى أو ليقضى حاجته!
نعم أنا منحازة. تحيزى يجعلنى لا أكف عن الحلم بأن تنقشع غمة سيطرة ثقافة البداوة، وأن تعود مصر لجمالها بنساء لا يلبسن العباءة ولا يلبس رجالها جلباب السلفيين.
كنت فى مستشفى جامعى كبير، متوترة لأن معى ابنى يعانى من كسور صعبة بالساق، وأحتاج أن أنهى إجراءات إدارية ليبدأ العلاج، وجدت موظف الشباك غير موجود، فى وقت ذروة العمل، كيف؟ تجيب سيدتان جالستان بنفس المكتب دون عمل –على الأقل هذا ما هو واضح لى- فى نفس واحد: راح يصلى.
بالطبع، عذر لا يمكن الاعتراض عليه، ولكنى أرد: يعنى إيه؟! يأتينى الرد، روحى أجزخانة الطوارئ. كان لابد من تسديد حساب ما لإجراء مهم، والصراف، قالوا بيصلي، روحى خزانة الطوارئ. دى مشوارها بعيد جدا، رديت بعنف، والموظف اللى فى الطوارئ مش بيصلى ليه؟
كنت عصبية والسيدات مندهشات!
طول عمرى أعتبر أن هذا نوع من أنواع الإرهاب باسم الدين، ليس صحيحا أن الإرهاب يكون بالسلاح فقط، لكن التلويح بالتدين حتى تتغاضى عن حقوقك إرهاب، التلويح بأداء الفرائض إرهاب أخطر، وباب لكل ما نحن فيه من تسيب. شاركت بعضا مما أكتب الآن أصدقائى على شبكة التواصل الاجتماعى، وصلتنى ردود إيجابية ومؤيدة، منها من قالت أن ما ذكرته شئ مستفز ومتأصل في شعبنا، وتعدي على حرية الآخرين، ولكن أنت حرة ألا يعجبك شكل المنتقبات، حرة إلى حد تعبيرك عن رأيك فقط، ولكن لا تعامليهم بتأفف مثلًا أو تحكمى عليهن بالجهل أو بغيره، هن أحرار طالما لم يعتد على حريتك أحد.
تلقيت تعليقات مؤيدة لموقفى وحصلت على بلوك من أحد المعارف، لا بأس من إلغاء صداقة بين شخصين لا يمكنهما مواصلة الحوار.
أذكر أننى احتجت لإنهاء أوراق من إدارة المهرجانات بالمركز القومى للسينما، فى الممر بادرتنى منتقبة: صباح الخير يا أستاذة صفاء، سألتها هل تعرفيننى؟
أنا رابحة، داعبتها وهأعرفك إزاى يا رابحة، ثم استدركت، آه من عينيك الحلوين دول. بعدها بسنوات قابلت منتقبة، فبادرتها: إزيك يا رابحة، قالت أنا مش رابحة، رابحة تعيشى أنتِ. حزنت، وما زلت غير قادرة على تقبل هذه العباءات السوداء ووجوه موظفات يعملن بمركز قومى للسينما مغطاة بالسواد، هن يقمن بعملهن مثل غيرهن، لا أشكو من إهمال أو من سوء معاملة، ولكنى عاجزة عن فهم سبب لكل هذه المغالاة، وعلى الطرف الآخر أجدنى عنصرية وغير قادرة على تقبل موظفة أخرى تكشف عن صدرها أو تدق بكعبها العالى الغليظ أرض الحجرة ذهابا وإيابا بين قاعة الانتظار وحجرة المدير الأعلى بالمكان، وجدتنى أتدخل –بلا وجه حق– وأسألها: ألا يطلب منها رئيسها أن تتحرك بحذاء لا يحدث هذا الصوت المزعج؟ وقبل أن تجيب أخبرتها أن هناك كعب مطاطى يمنع الصوت والإزعاج الناجم عنه. لاحظت كيف يفرض على الممرضات حذاء لا يصدر أى صوت حرصا على راحة المرضى، أحببت ذلك كثيرا. على الأقل هناك من يراعى مشاعر الآخرين.
أعترف أننى عنصرية، وأرفض المغالاة في الطرفين وأعتبرها اعتداء على إحساسى بعدم الراحة فى وجود كل هذه المناظر المتكلفة. ولو الأمر بيدى لمنعت المنتقبات من التدريس للأطفال ومن كل المصالح الحكومية، وخاصة المتعاملات مع الجمهور منهن. لا شك أن معلمة لرياض الأطفال تخفى كامل جسدها بالسواد يؤثر بالسلب على تربية الأطفال وعلى نموهم النفسى، وأعتقد أننا جميعا نحتاج تأهيلا نفسيا لنتمكن من تقبل اختلافاتنا الشكلية والعيش فى سلام دون أن يتمنى أحدنا موت الآخر أو هجرته من البلاد.
ربانى أبى على تقبل الآخر، ولكنى أعيش قى مناخ ضاغط يجعلنى أتربص من مساعد التمريض السلفى وأتوقع منه سوء معاملة لأننى بلا حجاب، وأتودد إلى الممرض مينا حتى لا يظن أننى سأناصبه العداء، أوشك على الاعتذار عن حادث الكنيسة البطرسية وكأننى شاركت فى الجريمة، ولكنه يتجاهل ترحيبى به وتعزيتى بالقول: البقية فى حياتك، أفكر كيف يشعر وسط كل هذه اللافتات بحجرة التمريض، هل صليت على محمد اليوم؟ وغيرها، أحسده على شجاعته فى الترفع عن الضيق من إظهار الانتماء بهذا الشكل الذى أجده فجا ولا يعبر عن حقيقة الإيمان، أتعجب من عدم تطبيق القانون الذى يمنع الملصقات مهما كانت قدسيتها عند البعض. لماذا أصبحت أفكر فى كل لحظة وإحساس مسيطر عليّ بالفوارق حاضرا لا يغيب.
صفاء الليثى
من القاهرة التى كانت.
شكر خاص للأصدقاء الذين تفاعلوا معى وشجعونى على العودة إلى الكتابة نتواصل من خلالها.