صفاء الليثي تكتب: لماذا أنا مغرورة؟

يصفني الكثيرون بأنني مغرورة، وأنا لا أغضب، أعترف أنني بالفعل مغرورة، لكن لماذا أصبحت مغرورة، لماذا أنا مغرورة؟ في السادسة من عمري كنت لا أتحمل شعاع الشمس، فأزر عيني وأنظر إلى السماء، أشاهد بعيني الضوء وأرى ألوان الطيف، أرددها، أزرق….. يسمعني أخوتي فيحملونني في سعادة، صفاء عبقرية اكتشفت ألوان الطيف، تبتسم أمي فرحة بابنتها، لا تعلق بل تداري عواطفها وتأمرني بالذهاب إلى الحمام والاغتسال، كفاية لعب في الشارع اتمليتي تراب. يصحبني أبي وأختي الأصغر في نزهة على ترعة قويسنا، لا أكف عن الأسئلة، وهو بصبر يجيب ويحكي، هو في طريقة لزيارة صديقه الحاج صابر في مسكنه الجميل على شاطيء الترعة، بيت من بابه، هكذا كنا نسمي الفيلات الصغيرة، أما بيتنا، فكان في عمارة سكنية تفضل أمي سكنى الدور الأرضي لكي تستفيد بالمنور، حديقة خلفية لتربية الطيور، والأرانب، والديكة الرومية، نلبس ملابس حمراء ونقف لنستفز الديك، الذي ينتفخ وينفش ريشه ويزعق: كعر عر عر، ونصفق طربا.

في الأعياد نخرج بفساتيننا الجميلة، يفتح باب وتخطفنا يد أبلة نرجس التي تسكن شقة جميلة، تجلس وزوجها في انتظار ظهورنا، تفتح لنا علبة شوكولاتة ينبعث منها موسيقى، نتردد في أخد الشوكولاتة، وهي تهز رأسها لي ولأختي ولصديقتي، تغلق العلبة فتنقطع الموسيقى، نحن لا نمتلك علبة مثلها ونحب سماع الموسيقي أكثر من التهام البون بون.. تجلسني أبلة نرجس على حجرها، تساوي أطراف الفستان تساعدني على فض غلاف البون بون وتمسك بورقة البخت، تديرها لي وتقرأ \”من جد وجد\”، من جد وجد، أرددها في ذهني وأعرفها.. هذه الكلمة نسمعها في البيت وفي المدرسة.. نبدأ في التململ فمهما كانت إغراءات الشوكولاته وعلبة البونبون والموسيقى، نريد أن نصل إلى بيت زميلتنا وأسرتها الريفية، حيث يكون النورج يدور لهرس القمح، نجلس مع ناهد على النورج ونطبل ونغني.. النورج تجره بقرة مغماة العينين تلف الدائرة ونحن نغنى، حتى نتعب أو ندوخ، فنجري عائدين إلى بيتنا في شارع المحطة.. نقرأ ونحن سائرين شاي الشيخ الشريب، والإعلان على الحائط بشيخ مثل شيوخ الكوتشينة، ندخل البيت فتهمس لنا أختانا الأكبر خشوا على الحمام واقلعوا هدومكم دي اتوسخت خالص.. لو كان اليوم جمعة فيكون الغداء من السمك، انا وأختي نلتقط لقيمات عليها قطع السمك خالية من الشوك، يفصصها لنا الكبار بابا وماما والأخ الأكبر، هناك تنافس في تقديم لقيمات السمك لنا ونحن في غُنج نأكل على مهل مستمتعتين بمائدة الطعام الوفير أمامنا.. يذهب الكبار إلى قيلولتهم ونبقى نحن نلعب بالعرائس، نوشوش بعضنا حتى لا نقلق نوم الكبار.

في المدرسة اقرأ خطبة الصباح وقد كتبها لي أبى، رغم أنني صغيرة القد، وما زلت في الرابعة الابتدائية.. أنا من تحيي العلم ومن تقرأ خطبة الصباح بصوتي الجهوري، وتمكني من القراءة الصحيحة التي دربني عليها أبى.. تنتهي الخطبة بحكمة: \” قل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا\”.. بالطبع لا أفهم معنى الكلمات هذه، لكنني أشعر بحماسة شديدة وأنا ألقيها.. أشعر أن أمرا جللا سيحدث بعدها.

في العيد الكبير أمرض بالسخونية، مغص وقيء فأُمنع من مصاحبة الأطفال ممن هم في سني وأخرج بصحبة أخي وابن خالي سامي.. يقطفون التوت من على الشجر ويضعونه في يدي الممدودة لهما.. هما يتناقشان في الأدب والشعرـ ألتقط بعضا من كلامهما وأخزنه، وحين أعيده في وقت لاحق، يصفقون فرحين بعبقرية الطفلة ضعيفة البنية التي تمرض كثيرا وتقضي العيد فيما يشبه العزل الصحي مع الكبار.

انبهار الكبار وفرحتهم بي سببت لي اعتزازا بالنفس، ورغبة دائمة في أن يرضوا عني، فأحفظ الدرس وأحسن الخط.. في الفصل تشيد بي \”الأبلة\”، وتقول لزميلاتي إنني سأجلس كمديرة عظيمة على المكتب بينما هم.. أخجل من ترديد وصفها لهن ولا أحب أن أتذكره.

يبقي دائما أنني كنت محبوبة الجميع والمدللة في البيت والمدرسة.. كان هذا في المرحلة الابتدائية، والتي عشتها في مدينة قويسنا بالمنوفية قبل أن أنتقل مع أخوتي لنعيش في القاهرة، حيث يدرس فخري في الفنون الجميلة وتحية موظفة في الشركة العربية للتجارة الخارجية بميدان التحرير، ووفاء في كلية الطب جامعة عين شمس، فكان على أن أدخل مدرسة إعدادية في القاهرة، والتحقت بالمعادي الإعدادية للبنات، كان ورقي قد وصل المدرسة قبل وصولي، وكانت إحدى الإداريات تأتي الفصل وتسأل عن صفاء الليثي حجاج الآتية من قويسنا منوفية، ومن هنا انتظرت زميلات الفصل وصول القروية ليسخروا منها ومن طريقتها في الحديث كما تصوروا.

في الفصل وضح تفوقي وسألنني لماذا لا أتكلم مثل الفلاحات، قلت لهن، دول فلاحين الراديو نحن نتكلم مثلكم.. لم أكن قادرة على شرح الفارق بين الريفيات القح بأسرهن ممن يعملون في الحقول ويربون الماشية، وبين أسرتي البرجوازية الريفية، فأمي المتعلمة التي تربت في القاهرة تملك كبرياءا لا نظير له، فتتأنق في حديثها، ووالدي مدرس اللغة العربية ويكتب أزجالا، كان يتحدث بعامية مختلفة عن لهجة فلاحي الدلتا.

في الشهور الأولي كنت الأولى على الفصل، ثم تراجعت وأصبحت في المركز الثالث، كان اهتمامي بالرسم وتشكيل طين الصلصال وقراءة الأدب تشغلني عن المذاكرة وتمدني بخبرات جعلتني أصبح مستشارة نفسية لزميلاتي في الأورمان الثانوية بنات التي التحقت بها بعد ذلك.

كان الغرور يصور لي أن الفتاة الجميلة على علب الشوكولاته هي رسمة لي، رغم تعدد المرايا في بيتنا.. مرآة دولاب أمي التي تظهرني كاملة، ومرايا أخرى.

كانت صورتي عن نفسي في ذهني أقرب لهذه الطفلة الإنجليزية بخدودها التي تشبه التفاح وشعرها الذهبي، هكذا صور لي خيالي نتيجة اهتمام الأسرة بي وتدليلهم لى.. أنا مغرورة ولا أكره هذه الصفة، بل أجد \” الغرور صفة محببة \” لأنه يصبح سلاحا دفاعيا ضد الفقر وضد الشعور بالفارق الطبقي بيني وبين زميلات تربين في بيوت أغنى، ولديهن كماليات ليست عندى، متنعمات بحنان الأم التي فقدتها بعد عام واحد من انتقالي إلى القاهرة.. ساعدتني قراءاتي الأدبية المبكرة على تجاوز محنة فقد الأم، ولم أشعر بقسوة زوجة الأب، ولم أصب بالعُقد لأني أسكن في المساكن الشعبية في إمبابة بينما تسكن زميلاتي في الدقي والعجوزة.

ومن شدة غروري واعتزازي بنفسي كنت أسعد بسماعي لزميلات الحي تجبن على سؤال الأخريات: \”انت ساكنة فين؟\” فتقلن بثقة عند صفاء، وتتركنني لأصف أننا في حي إمبابة المنقسم إلى مدينة العمال ومدينة التحرير، وأنني في المساكن الشعبية بين المدينتين، وأننا نعيش سعداء حيث يغني أخي وهو يرسم، وتحفظ وفاء دروس الطب بالإنجليزية، وأحفظ نصوص القرآن وأسأل عن معانيها فأجد شرحا يدخل العقل.. كل هذا في حجرة واحدة دون أن ينزعج أحدنا من الزحام. نتحلق حول تمثيلية الخامسة والربع بالبرنامج العام من راديو الترانزستور الذي اشترته تحية أختي الكبيرة الموظفة من راتبها.. نقلب صفحات مجلة حواء ونتأمل جمال العارضات. وحين تحضر ابنة خالي القاهرية لزيارتنا وتسأل متعجبة: \”ما عندكمش فريجيدير\”؟ فنجيبها عندنا القلة.. نشرب من القلة بعدما نرفع غطاءها النحاسي الذي اجتهدنا في دعكه بالليمون ليصبح ذهبيا لامعا.. نمسح فمنا بكف يدنا حامدين الله على نعمة العيش في الرضا، مغرورين بتماسكنا كأسرة لا نمتلك أرضا ولا ذهبا، لكننا نمتلك معارف تجعلنا قادرين على الاستمتاع بحياتنا ونحن نقرأ قصصا مترجمة عن مسرحيات عالمية.. نقرأ \”أولاد حارتنا\” مسلسلة في أهرام الجمعة أو نحضر فيلما في دار عرض كبيرة بوسط البلد في القاهرة.. يأخذنا أخي إلى حفلة سينما مترو الصباحية، وعندما نكبر تأخذني تحية إلى سينما ميامي، فأحضر معها \”ليلة الزفاف\” لسعاد حسني وأحمد مظهر.

أكبر أكثر فأصطحب أنا صديقاتي إلى سينما ريفولي ونشاهد معا \”الأخوة كارامازوف\”.. نشعر بجمال الحياة وبالرضا، لأننا قادرون على المقارنة بين هاملت الروسي وهاملت الانجليزي، بعدما نكون قد تناولنا أيس كريم من قويدر وعدنا بأتوبيس 177 عتبة إمبابة من أول الخط حتى نهايته.

الآن.. ولو ضبطني أحدكم سارحة ومبتسمة وسأل نفسه: \”هي فرحانة بنفسها كده ليه\”، فليعرف أن عناية أمي وأبى، ورضاهم عني هما السبب، وأن محبة الأهل والأصدقاء كافية لجعلي أمتليء فرحا وأقول لنفسي: \”ده ربنا جميل بشكل\”.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top