صفاء الليثي تكتب: لماذا أنا رومانسية؟

 

في جلساتنا الأسرية نتجمع ونلعب، نتبادل التعريفات، تقول أختي أنت رومانسية، وقبل أن تختفي الابتسامة التي ارتسمت على وجهي وتعبير الخجل مما أعتقد أنه مدح، تُكمل: الرومانسية تخلف يا صفاء.

ماتت أمي ولم أكمل الثانية عشرة، وتقاسمنا شئون البيت أنا وأخوتي.. كنت مكلفة بشراء الطلبات، بينما أختاي الأكبر تطبخان وتقومان على شئون البيت، كنت كالصبي الذي لا يمنعه أحد من الخروج، وكنت أحب التنزه، كنا في أحد أحياء المعادي الشعبية وصديقاتي في أحياء أرقى، نلتقي ونتمشى علي شاطيء النيل، نصفق علي سور الكورنيش، فتقفز الأسماك عاليا، كان النيل ممتلئا بالطمي من الفيضان والمياه تصل إلى الأسفلت، نيل جامح بأمواج كما البحر، لم يكن بناء السد قد اكتمل، وكان النهر في عنفوانه.. أذكر أن موجة من التنصر لعدد من المسلمين حدثت، وكانت حديثا بيننا دون فهم، كانت لي صديقة مسيحية اسمها مرفت، ذكية ومتفوقة، كانت تأتي معي إلى منزلنا النظيف والمرتب، تقلب معي الكتب التي كان يحضرها لي أخى، الأخ الوحيد لأربع بنات، كنا نضحك.. أربع بنات وضابط كما الفيلم. مرفت قالت إن المسيحية كتابها العهد الجديد يكمل كتاب اليهودية العهد القديم، قلت بسذاجة وجاء القرآن ليختمها جميعا، فانفجرت مرفت في ضحكة عالية، أحسست بسخريتها، لكني سكتت وغيرت الموضوع، هي ضيفة في بيتي وهناك الكثير مما يمكن الاتفاق عليه، أريتها كتابي ذو الغلاف البرتقالي وقرأت معي الإهداء \”ذكرى صداقة يوم ستمتد أكثر، وشاي جميل وسمك رائع\”.. كان لأخي صديق سوري هو الفنان \”نزير نبعة\” جاء لزيارتنا وقدمنا له طعاما من السمك المشوي، أهداني الكتاب الذي أصبح مرجعا لكل أطفال الأسرة \”حكايات شعبية روسية \” مجلدا بالأحمر البرتقالي  ويحوي قصصا رائعة، كانت الترجمة من الروسية إلى العربية مباشرة، أذكر تعبيرات مازالت محفورة في رأسي \”ولابد مما ليس منه بُد\” بد بضم الباء، لغة عربية بذائقة مختلفة أحببتها من كتاب الأطفال المترجم من الروسية في الحقبة السوفيتية، احتفظت به وكان أحد مكوناتي الثقافية والمعرفية المهمة، حتى أهديته لابني طارق الذي أعاره لأستاذه  بمعهد السينما علي بدرخان، ولم يعده، فقدنا الكتاب – وبالمناسبة أرجو من الصديق علي بدرخان أن يعيده إلينا فهو إرث العائلة التي لا يتوارث أفرادها سوى عدد لا بأس به من الكتب وقليلا من الأقلام التي كان أبي يهوى جمعها- نزير نبعة كان أخي يراسله ويكون اسمه علي المظروف نزير نبعة المحترم. رزق بصبي اسمه عمار وحين زارنا كنا نملأ له طشتا بالمياه ونجلسه بداخله، لم يكن هناك تكييف والطفل آت من سوريا حيث المناخ معتدل وليس حارا كما القاهرة. أطلق نزير على ابنته اسم صفاء ، قد تكون مصادفة، لكن لغروري الذي حدثتكم عنه -سابقا – ظننت أنه أسماها على اسمي وسعدت بذلك.

في مرحلة قويسنا كنا نقرأ الأخبار التي يشتريها أبى، وعندما انتقلنا لرعاية الأخ بعد زواج أبي وبقائه بقويسنا ورحيلنا نحن إلى القاهرة، أصبحنا نقرأ الأهرام التي يقتنيها أخي، انتقلت تبعيتنا الثقافية من الأخبار والمصور وآخر ساعة، إلى الأهرام وصباح الخير وروز اليوسف.. لم يعد أبي يحكي لي قصص القرآن الكريم، بل أصبحت أقرأ ما يقرأه الكبار من الأدب العالمي المترجم والمسرحيات العالمية.. اعتراف لابد منه، كنت أقرأ فصول \”الحرب والسلام\” التي تتناول الأسرة والبطل سمكتونفسكي فارس أحلامي منذ المراهقة، لاحظت أن فصلا يتناول الحرب وفصلا للسلام، كنت لا أقرأ فصول الحرب وأتابع قصص الحب والأسرات الأرستقراطية وأعيش في عالم الرواية العظيمة.. لم أكرر الأمر واعتبرت أنها خطيئة وحيدة يمكن أن أغفرها لنفسي، ولا داعي أن أبوح بها لأحد. ولم أحتج إلى فعل ذلك مرة أخرى، بل كنت أقرأ وأحفظ بعضا من نصوص ما أقرأه عن ظهر قلب كتاب سلامة موسى المبسط عن دارون وتوقفت عند فقرة كتبتها في الأوتوجراف لصديقة لي \”وهكذا فإن استمرار الحياة مستمر لاستمرار الصراع بين الكائنات فيها، ولو ساد الخير فلا حياة ولو ساد الشر فلا حياة\”، وكانت الحكاية عن طائر الدؤدؤ الذي لم يجد له أعداء يدفعونه إلى الحركة فسمن ثم انقرض.

وقرأت د. هـ. لورنس وتصالحت مع فكرة الجنس التي كدت أكرهها من سماعي لألفاظ الشتائم القبيحة التي كنت أربط ألفاظها بآيات من القرآن يتلوها أبي بصوت ظاهر: \”وانكحوا ما طاب لكم من النساء\” النكاح وابن…. التي كانت ترتفع في الشوارع في قاهرة المعز بشكل شائع بين الناس.

لم تكن قصص إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي في بيتنا، ولم أقرأها إلا بعد أن بدأت بيوسف إدريس وتشيكوف، وكانت وفاء تحفظ قصته \”عنبر رقم 6\” عن ظهر قلب، أما أنا فكانت الأم لماكسيم جوركي وخاصة شخصية البطل الثاني هي كتابي المقدس وحفظت منه: \”إنني أستطيع تحمل كل شيء، ومكابدة أي شيء، لأن لدي فرحا عظيما لا يستطيع أي إنسان، أو أي شيء أبدا مهما كان أن ينتزعه مني، وهذا الفرح هو مصدر قوتى\”.. المقربون مني كانوا يرونني هكذا حتى إن وفاء اعتقدت أنني من ألفت هذه العبارة.

لم أكن أعيش الحقيقة.. كانت حياة الروايات هي حياة موازية أعيشها، لاحظ الفنان أحمد نور الدين هذا وفي الأوتوجراف كتب لي: \”ودائما عيشي الحقيقة، ولا تدفعي أكثر مما تملكي\”، وسيتكرر هذا في محطات كثيرة من حياتي وأسمع من يقول لي: الحياة ليست كالأفلام.

في سينما قويسنا كنا نشاهد أفلام عرض الخميس، حيث الفيلم الاجتماعي الجبار، أقوى ما أنتجته الشاشة العربية حتى الآن، يمر عنتر بعربة عليها الإعلان، وبعد دقات على الطبلة يقول ما سبق في الميكرفون.. كنت وأختي الأصغر نكتب كلمات الأغاني وكأننا نوثق لحياتنا الجميلة في كراسة مازلت أحتفظ بها، هي تسليتنا في الإجازة الصيفية الطويلة.. شمس وقمرين رب يخللى، يا رموش العين سمي وصلى.. صباح ترعى أطفال عماد حمدي وتعوضهم حنان الأم نظير إيوائه لها، يبدو أنني حلمت كثيرا وتمنيت أن أكون أما لشمس وقمرين، بنت وولدين، أكبر أكثر وأتعلق بشادية وعبد الحليم ودويتو، تعالي أقولك، وقع كلمة دويتو علينا ونحن صغار وقعا محببا أستعيده الآن وأتذكر كل الثنائيات الغنائية الرائعة من عبد الوهاب وحكيم عيون، وليلي مراد ومحمد فوزي في حاجة شاغلاك ، شادية وفريد الأطرش ويا سلام على حبي وحبك، وعد ومكتوبلي أحبك، حين قدم يوسف شاهين دويتو في فيلم رومانتيك كوميدي يليق به وبتجربته \”أنت حبيبي\”، ومنها إلى وطني حبيبي يا وطني الأكبر، الأغاني الوطنية الرومانسية عن الوطن وأمجاده التي تكبر، أكبر أنا في ظل حكم عبد الناصر وحلم الاشتراكية، دون فهم أندمج في طابور الاستعداد للحرب وأغني بصوت يشق صدري \”يا أهلا بالمعارك، ويا بخت مين يشارك، بنارها نستبارك، ونرجع منصورين، ملايين الشعب تدق الكعب…\” أدق كعب الحذاء بقوة في الأرض وأتخيل عودة جنودنا منتصرين.. قطع حاد وأسمع صرخات ترفض التنحي، يعلق أخى: تعال هنا زي ما وحلتنا تخلصنا، وقطع آخر وجار لنا يعمل مع الحكومة ويتحرك دائما بجلباب أبيض أسمعه يولول كما النساء: يا ريس.. يا ريي.. ماذا؟ عبد الناصر مات وجنازة مهيبة نبكي رحيل الزعيم صاحب الحلم الذي حمله لنا عبد الحليم حافظ وسط أغانيه الرومانسية.

يقتلني الحنين الآن إلى صوت عبد الوهاب الذي يذكرني بأبى، وصوته الرخيم مع اندماج حقيقي مع نوال وصينية البطاطس وحوله الجميلات، يرتسم شبح ابتسامة على وجهي.. أسحب ابتسامتي وأقر: نعم أنا متخلفة ورومانسية خلقت لنفسي عالما من الخيال عن الأسماك التي ترقص في بحر النيل، وعن الورود البلدية في مشاتل قويسنا، وعن بستان الاشتراكية وإحنا بنهدر ع المية.. ومعانا جمال.. عن الحياة بكنبة وقلة وكباية، والزواج بدون شبكة ولا مهر، ولا فستان أبيض وطرحة، ولها حديث آخر إذا عشنا وكان لينا عُمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top