صفاء الليثي تكتب عن مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية.. الصغير جميل حتى في الحمير

للمرة الأولى أحضر مهرجان للسينما الأفريقية على أرض مصر، كنت شغوفة بمشاهدة أفلام قارتنا السمراء بشكل مكثف، وفي ذهني التربة الحمراء ووجوه الأفارقة المحببة وملابسهم بألوانها الزاهية، وبالطبع في الذهن أيضا المجاعات والمذابح ومعاناة شعوب أفريقيا في بلدانها المختلفة .. في الذهن نجاحات تحققها السينما الأفريقية وآخرها فيلم \”تومبوكتو\” الذي عرض بالافتتاح.

ركزت مع عروض الأفلام القصيرة – لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الرابعة – التي بدأت في العاشرة من صباح 17 مارس 2015 بمكتبة الأقصر. المرة الأولى – على حد علمي – التي تعمل فيها المكتبة بكل طاقتها وتستضيف القاعة عروضا للأفلام. المخرج سعد هنداوي وبجواره المصور زكي عارف جالسان في الصف الأمامى، هما عضوان في لجنة التحكيم التي تشاهد الأفلام مع الجمهور. الجمهور كلمة غير دقيقة، فلا يوجد حضور من أهل الأقصر، وجل الحاضرين من ضيوف المهرجان أصحاب الأفلام وعدد قليل من عشاق السينما منهم الشاعر زين العابدين فؤاد وزوجته جوسلين تالبت والمثقف القدير حلمي شعراوي وزوجته وهما ناشطان في حقوق الإنسان وغيرها من الفعاليات.

المخرجة إنعام محمد علي والسيناريست سناء الشيخ وكاتبة هذه السطور والمخرج أحمد رشوان. المخرج سالم دندو والمخرج جورج كابونوجو، وعدد آخر لا أذكر أسماءهم. مسئول البرنامج القصير ومدير الندوات أحمد حسونة ومعه فريق من المهرجان لتنفيذ العروض. هناك جدية واحترام في كافة التفاصيل، بداية من احترام لجنة التحكيم وتواجدهم في موعد العرض تماما، وانتهاء بالاستجابة إلى طلبنا بتخفيف التكييف البارد في القاعة الجديدة.

في اليوم السابق حدث تعارف مع عدد من المشاركين بأفلامهم، يخاطبوننا: فيلمي في العاشرة أو الثانية عشرة.. نعم سأشاهد الأفلام كلها، تأكيد يحتاجه أصحاب الأفلام القصيرة التي عادة لا تجد متابعين، إذ يفضل الغالبية مشاهدة عروض الأفلام الطويلة التي تجري في قاعة المؤتمرات بأعلى درجات الجودة بالوسيلة الأحدث للعروضDCP غير المتوفرة في مكتبة الأقصر، حيث جهاز عرض جيد، ولكنه غير مثالي.

تعرض الأفلام روائية وتسجيلية دون فصل، وتقوم لجنة التحكيم بمنح الجوائز دون خلط النوعين معا. فتكون هناك جوائز للروائي وأخرى للتسجيلي، وقد ضمت المسابقة 13 فيلما روائيا وأربعة تسجيلية.

شهد اليوم الأول أفلاما قوية وهي التي حازت الجوائز، وشهد اليوم الثاني أفلاما مصرية مهمة نافست دولا أفريقية منها السودان ونيجيريا وتونس. فيلم الناقد والمخرج محمود الجمني \”وردة\” حاز على جائزة النيل الكبري التي استحقها عن جدارة، إذ يتناول المخرج شخصية فتاة أصيبت بالمرض، ولكنها تواجهه بابتسامة وتمارس عملا فنيا في تنفيذ لوحات بمطبعة صغيرة، بدون ميلودراما، وبرقة شديدة يضرب لنا المخرج ووردته مثلا في قوة العزيمة والصبر على الشدائد.

يقول المخرج عن فيلمه: ليس فيلما عن المر أو عن الفن الذي تقدمه الفتاة، بل عن المرأة التونسية القوية والثائرة، وفي كلمته بعد استلام الجائزة، يوجه نداءا للمسئولين: \”اصرفوا على الثقافة\”.

الجمني كان يقودنا بين قصر الثقافة وقاعة المؤتمرات، وقد درس شوارع الأقصر، رغم أنها زيارته الأولى لها.. يندمج مع الجميع نقاشا ومداعبة، حضوره محبب كما فيلمه الذي يعكس جمال الحياة.

من نيجيريا فيلم مدهش عن الاحتفال بالميت والرقص له قبل أن يواري جثمانه التراب، حاز شهادة تنويه خاص عن عمله المبهج رغم وحشة الموت، مخرج الفيلم جورج كابونجو مخرج قدير له أعمال مهمة شاركت بالمهرجانات، وكان من أكثر المشاركين انتظاما في حضور العروض.

الفيلمان التسجيلييان الثالث والرابع من مصر والسودان، همهما سياسي وقد تباينت حولهما الآراء. فيلم \”ملكية جوبا\” لمخرج سوداني شاب في عمله الأول يعتمد بالكامل على وثائق تروي تاريخ السودان، وما حدث به من ثورات بالتوازي مع لقاءات مع رياضيين يحكون عن تأثير التغيرات السياسية على مهنتهم، لعب الكرة، ينتصر المخرج لوحدة السودانيين ويعكس – بدون قصد – سببا من أسباب انفصال الجنوب، ونحن نشاهد فتيات بملابس عصرية تشجعن اللعبة بحيوية وإقبال على الحياة.

مزمل نظام الدين هو نفسه مقبل على الحياة، يحمل روح طفل أدهشها الغناء الصعيدي وفنون الرقص والعزف، التفت إلي متسائلا: هل يمكنني الانضمام إليهم؟ وقبل أن أجيب كانت الحلبة قد امتلأت بالشباب يمرحون بعد إعلان الجوائز في حفل ضم المشاركين وضيوف المهرجان.

مع مزمل قابلت غدير وهي فتاة عملت معه في الفيلم وكانت تصور الندوة، بوجهها المبتسم يظهر أسنانا بيضاء وحجابا وبنطلون، يمحي من ذهني الصورة التي تصلنا عن العقاب والاضطهاد لمن ترتدي البنطلون.. سودانية أخرى بلا حجاب يؤكد أن الوضع بالسودان لا يختلف عن الأوضاع في مصر، حيث تتنوع اختيارات الفتيات وتمتلكن حريتهن في العمل وفي اختيار الزي المناسب لهن.

اختلفت الآراء حول الفيلم المصري \”جزيرة التحرير\” الذي صاغه صانعاه الكاتبة هبه الحسيني والمخرج حسن صالح من وثائق مصورة بالتحرير بكاميرا هواة، بالتركيز على فترة حكم المجلس العسكري وقبل استلام الإخوان للسلطة، بوجهة نظر واضحة تدين \”حكم العسكر\” وتتبنى وجهة نظر ثوار يشعرون أنهم في جزيرة معزولة عما يجري خارج ميدان التحرير.

أجد من حق هبة وحسن التصريح برأيهما الذي قد يخالف البعض ممن شاهدوا الفيلم، وإن كنت لا أوافق على عدم النجاح في تلافي ضعف الصورة في المونتاج. في النهاية جودة الصورة وسيط لابد من احترامه لاكتمال العمل الفني. وهو ما تحقق مع الفيلم الفائز بأفضل فيلم روائي قصير \”الأرض الأم\” لمخرج أخبرنا أنه فرنسي، رغم أن الفيلم مسجل كمنتج لدولة السنغال، والمخرج أصوله من موريتانيا وتلقى دعما من عبد الرحمن سيساكو صاحب \”تمبوكتو\” ، لتصوير الفيلم، نلمح نفس سيساكو وأسلوبه الفني الذي تناول بهدوء فكرة تتعلق بالتغيرات التي يصادفها مهاجر عاد لموطنه مع أصدقائه من أصول عربيه وأفريقية ليدفن جثة أخيه، فيصعب عليه ذلك نتيجة سيطرة المتطرفين على بلدته، ويضطر لدفنه بعيدا عن مقابر العائلة. وفي الطريق تدور مناقشات بين الأصدقاء الأربعة وخاصة عند توقف، نجح المخرج في تبريره بعطل مفاجيء بالسيارة، يتميز الفيلم بسيناريو محكم وإخراج شديد الاحتراف لمخرج قدم عملا روائيا وآخر تسجيليا، ليأتي عمله الثالث هذا مكتملا في عناصره الفنية شكلا وموضوعا. والفيلم كان منافسا قويا لثلاثة أعمال أخرى أحدها للممثلة التونسية نجمة، أقدمت على إخراج عمل قصير أجده عملا جيدا من منظور اجتماعي عن زوجة تقليدية يهملها زوجها السياسي الزائف، فتقبل على التهام الشوكولاته تعويضا عن إهماله وخيانته لها. أسهبت نجمة في شرح دلالات سياسية لعملها وأجد أنها بالغت في شرح فيلمها، ناسية أنه علينا أن نستقبله وأن نقرأه دون الحاجة لمذكرتها التفصيلية عنه.

الثرثرة كانت داخل الفيلم المصري \”لحظة\” لمخرجه الوليد جمال عن فكرة قُتلت بحثا عن الشخصيات الدرامية وامتلاكها حياة حقيقية رغما عن مؤلفها. الوليد درس فقط في ورشة لصنع الأفلام ولحظه كان عمله الأول، وقد أدرك بنفسه قدرا كبيرا من أخطائه بعدما شاهد الأفلام الأخرى، وتعلم منها الإيجاز واختصار الحوار ليكون مكثفا دون شوشرة على الصورة التي بذل فيها مجهودا يحترم. الوليد جمال أعاد مشاهدة فيلمه بينه وبين نفسه بعد كل عرض للأفلام الأخرى ليدرس بنفسه مشاكل فيلمه ليتلافاها في أعماله القادمة. تلقى دعوة للمشاركة بفيلمه في وهران بالجزائر وفي مهرجان آخر بأفريقيا، وهذه إحدي فوائد المهرجانات بالتشبيك والتواصل بين منظمي المهرجانات وبين صناع الأفلام.

اقترب الفيلم المصري الآخر \”نصبة\” من الكمال، وحاز إعجاب الحضور لتعبيره عن لحظات مصرية جدا في موقف صاغه بتمكن عن الشاب الذي حضر قبل الفجر ليشرب شايا على نصبة بالشارع.

إيقاع الثورة التي تجري على مقربة من النصبة وتفاصيل الحياة خارج الموقع الذي اختاره المخرج، وحوار الشخصيات، رسمت صورة للقاهرة في لحظات تبدو ساكنة ولكنها تموج بالصخب وبالتوقعات لحدوث أشياء كبيرة، أفسد الفيلم أداء الممثل القديم عبد العزيز مخيون الذي سبب لي ولعدد من الحضور لبسا حول كونه يعرف الشاب القادم لشرب الشاي أم كونه مجرد عابر سبيل.

تكتمل الأعمال الفنية القصيرة التي تمتلك أسلوبا خاصا بأداء غير نمطي لممثلين لم يفسدهم الاحتراف وهو ما تحقق مع أحمد مجدي جزئيا، وما تحقق بشكل كامل مع ممثل لا أعرفه ولم يذكر اسمه في الكتالوج. وعرفت أنه نبيل نور الدين وأنه ممثل سكندري وناشط سياسي، أخبرني عنه الشاعر زين العابدين فؤاد الذي كان فعالا ومفيدا في المناقشات، مما جعلني أبدل رأيا سابقا لي راودني عن جدوى دعوة غير سينمائيين لحضور فعاليات مهرجان سينمائى، فقد وجدت حضوره والسيده زوجته جوسلين تالبت، والأستاذ القدير حلمي شعراوي وزوجته من أجمل ما حدث بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وكان تفاعلهم في النقاشات سواء في الندوات أو في النقاشات الجانبية مهما وممتعا لي ولعدد كبير من الحضور، خاصة شباب السينمائيين مثل السوداني مزمل والمصري الوليد والتانزاني أميل، وكان له فيلم روائي قصير يعكس كما فيلم \”لحظة\” عيوب العمل الأول والطموح الذي يفتقد القدرة على تحقيقه بأدواته البدائية.

يحضرني دائما المثل الشعبي \”الصغير جميل حتى في الحمير\”، وأجده وصفا مناسبا للفيلم القصير الذي يمضي قبل أن يتورط صانعه في ثرثرة مملة، يمضي عادة دون أخطاء فادحة، إلا إذا تصور صانعه أن جحشه اللطيف يمكن أن يتحول إلى حمار ناصح لو امتلك إنتاجا أكبر. لكن الحقيقة أن الفيلم القصير عمل قائم بذاته يمتلك من الجماليات وأسس البناء ما يجعلنا نشعر بالامتلاء والتشبع بحيث نضع مع المخرج نقطة النهاية قبل أن يراوغنا أحيانا بنهايات أخرى تفقده روعة السرد الذي بدأه.

\”الفيلم القصير فن له طبيعته الخاصة، يشترك في الكثير من السمات مع القصة القصيرة والصورة الفوتوغرافية\”.. من كتاب كتابة سيناريو الأفلام القصيرة، تأليف بات كوبر وكين دانسايجر، ترجمة أحمد يوسف. انصح صناع الفيلم القصير في مصر بقراءتها قبل الشروع في إخراج فيلم قصير، واندهش من انتشار ورش العمل والتهافت عليها باعتبارها وسيلة سريعة لتجميع بعض المعارف لعمل فيلم قصير. لكن الأهم والمتفق عليه بين جميع آراء من لهم خبرة في صنع الأفلام أو في النقد هو مشاهدة الأفلام ومحاولة قراءتها واستيعابها.. تحليلها وتفكيها لدراسة عناصر تكوينها، وطرق سردها، وهو ما يمكنك من صنع فيلم قصير تنافس به على الجوائز في المهرجانات الدولية. وتوقع باسمك في قائمة صناع الأفلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top