شيماء عبد العظيم تكتب: الصندوق الأبيض

\"\"

صندوق أبيض بلاستيكي بحجم ذراعيك إذا بستطهما أمامك، يقبع أمام ناظري منذ.. لا أعلم ربما منذ الأبد.
أول ما تقع عليه عيني صباحا، وآخر ما تراه قبل أن تغفو، لدرجة أني أصبحت حرفيا لا أراه. ماذا يوجد بداخله؟ أعلم أنها كراكيب أو أشياء قديمة لا حاجة لي فيها الآن. أذكر أيضا أنه حمل بعض متعلقاتي المكتبية حين تركت عملي الأول. وكان هذا آخر عهدي بالصندوق.
فاصل.
اليوم أفقت من نومي وقد شغلني كثيرا شيء ما فقدته وقلبت عليه البيت رأسا على عقب، لكن كالمعتاد ذهب إلى ذاك الثقب الأسود \”المنفد\” على بيتنا والذي يحتجز أغلب شراباتنا وتوك الشعر وأربطة الأحذية وأنتم تعلمون الأسطورة. ثم وقعت عيناي على الصندوق فقررت في محاولة يائسة أن أنبش هذا الأثر ربما وجدت غايتي.
ها أنا أقترب منه وفي رأسي خلفية موسيقية ملحمية تعلو بأدريناليني لقمة إيفرست. أزيل ما يحتل سطحه من أشياء، بصعوبة أرفع الغطاء وأمد يدي في فضائه المظلم أتحسس بعض الورق، شهادات خبرة وشهادات تقدير، برواز، قطعة خشبية تذكار من احتفال ما، مفكرة، تذكرة لحفلة بمكتبة الإسكندرية، صورة لي رسمت بقلم رصاص على عجل ضمن أنشطة كرنفال أقيم في القلعة، ثم رأيت بريقا معدنيا ما! حاولت الوصول إليه بشغف. إنها قطعة ذهبية! لقد عثرت على كنز ذهبي لم أتصور أن أعثر عليه يوما. نعم كنز ذهبي وبجانبه آخر فضي وثالث برونزي ليس لعلي بابا لكنه بالكامل لي وبمجهودي الشخصي.
ألحظ الشك في عينك عزيزي القارئ، لكنه ليس تعبيرا مجازيا، لقد وجدت بالفعل ثلاث قطع معدنية ثمينة جدا وغالية على قلبي حتى كاد يتوقف لرؤيتها. الثلاث قطع هم ثلاث ميداليات في لعبة الجمباز كنت قد حصدتها بطفولتي في ثلاث بطولات جمهورية مختلفة. وما إن وقع نظري عليها حتى شممت ريح والدي طيب الله ذكراه، فهو السبب الأول وربما الوحيد خلف أي إنجاز لي في هذا المجال. أتذكر ركضه المستمر لتوفير كل وأي احتياج لي كي أنجح كرياضية صغيرة رغم أنفي، أذكر كيف كان يأخذني من المدرسة إلى النادي ويدرس لي دروسي جميعها حتى لا يأتي تفوقي الرياضي وحده بل يصاحبه تفوق دراسي أيضا. لقد عكف والدي طوال عمره على تنمية مهارات الرياضة والدراسة بل والثقافة وبناء الشخصية أيضا وكل هذا بنفسه وبمساعدة أمي، لا معتمدا على مدرسين أو خدم، لقد أعطى كل وقته لبيته ولأسرته واستثمر فينا مجهوده بالكامل، ولم يكن هذا نابعا من حس المسؤولية فقط، لكنه وجد سعادته القصوى في هذا العمل. لم أكن أدرك قيمة ما فعله وقتها لكني أدركه بالكامل الآن وأنا أرى تخاذل الآباء والأمهات وهروبهم من المسؤولية أو شكواهم المستمرة وضيقهم بالتربية.
تحركت أصابعي فوق الميداليات لأقرأ تاريخي مع أبي وأرى صورا كثيرة من الماضي وأشم رائحته الذكية، ثم فتحت الغلاف البلاستيكي لاتفحص القطع وأرى كنزا آخر، لقد خط بيده على كل قطعة تاريخ ومكان البطولة وكأنه يترك لي أوتوجراف بخطه مع شريط ذكريات يعلم أني سوف أقدر قيمته لاحقا.
البرونزية في يناير عام 1993، بطولة الجمهورية لسن أحد عشر عاما ببور فؤاد، تلتها الفضية في ديسمبر 1993، وذيلتهن الذهبية 12 يناير عام 1994.
ما هذا؟ هناك شيء ما خلف تلك القطعة الذهبية، تبدو كورقة صفراء مطوية، أسرع في التقاطها لأرى ما بها، إنها قصاصة جرائد قديمة صفراء لعامود صحفي كتب به \”سبورتنج والقاهرة يتقاسمان بطولة الجمهورية للجمباز\” وتحت الخبر خط رقيق بقلم أحمر جاف تمت الإعادة عليه مرتين تخليدا للذكرى. لقد أراد أبي دائما أن يؤرخ كل الأحداث ويحتفظ بكل كبيرة وصغيرة تقع تحت يديه حتى إننا كنا دائمي السخرية من كم الورق والأشياء التي يحتفظ بها في نظام و\”أستكة وسلتبة\” كما كنا نداعبه بالكلمة إشارة إلى استخدام أستك وسوليتب لإحكام تنظيم المقتنيات الورقية. من يسخر من ماذا اليوم؟ أراك تضحك من أعلى على مدى تأثري بالذكرى. كنت تعلم بقدوم هذا اليوم وأيام مماثلة.
التقطت بعض الصور للمقتنيات وراودتني الكثير من الذكريات والمشاعر والصور التي لم نلتقطها سويا لكنها نقشت في القلب فزينته. ثم أعدت القطع الى مكانها بعد أن نسيت تماما ما كنت أبحث عنه. فقد وجدت ما هو أثمن بكثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top