\”وإياك تكون زيهم وتروح وتجرحنا، ده أنت الوحيد منهم تقدر تريحنا\”.
محمد منير \”بننجرح\”.
يبدو أن فوبيا الشك، والوسواس القهري المصاحب لبداية أي تورط عاطفي حقيقي، لم يكن من نصيب أبناء جيلنا وحده، فقد عبر عنه الكينج في مطلع الثمانينيات بجملتة العبقرية \”إياك تكون زيهم\”. و\”هم\” هنا ضمير عائد على تاريخ مشرف من الصعبانيات الخالصة التي خٌلدت ذكراها على جدران القلب وبين أروقة الذاكرة. ربما الفارق الوحيد بين الجيلين \”غير الفرق اللي كل الناس عارفاه\”، هو في طريقة التعامل مع هذا التوتر، فجيل منير وقتها كان لسه عنده أمل، أما جيلنا أدرك مبكرًا أن أمل ماتت محروقة فعزف عن الأمر برمته.
هذا العزوف عن التعاطي مع أي مشاعر حقيقية ليس بدخيل على ثقافتنا فنحن شعب مؤمن بطبعه، ومؤمن بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بالبلدي \”يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز منك عسل\”.
متلازمة الرفض العاطفي المضادة لكل قوانين الطبيعة تلك، أصبحت السمة المميزة لأغلب رجال ونساء جيلنا من الثلاثين وأنت طالع، حيث إنه لم يعد لدينا متسع لمزيد من الـ \”تجرحنا\” خلاص، المشرحة مش ناقصة قتلة والله، وكفانا بمصاعب الحياة في مصر جراحا.
لقد فسدت فطرتنا تماما من كم اللكمات الذي يكيَل لها يوميا، فعمدنا إلى إقصاء ما استطعنا إليه سبيلا من مسببات الإحباط، حتى وإن كانت من الحاجات الأساسية للتوازن النفسي مثل الاستقرار العاطفي.
أصبحنا نتساءل مع كل تجربة تطل برأسها في حياتنا العاطفية \”المأندلة\” ونحن نضع قدما على أعتاب التجربة والأخرى على طريق الهروب: هل حضرتك ستكون \”زيهم وتروح وتجرحنا؟\”، فتجيب خبراتنا وتجارب المحيطين بأنه \”نعم في الأغلب هذا ما سيحدث\”، واقرأ التاريخ. فمن يرقى لأن يجرحنا هو دائما الوحيد اللي قادر يريحنا، معروفة دي واسأل برة. وهذه الإجابة تعتبر تأشيرة التعامل للقدم التي تتوق للهروب بالإنطلاق فورا.
إن لم تكن تعي الحقيقة المُرة بعد، فدعني أخبرك أن هذا الجيل بلغ من التشوه النفسي -وخاصة العاطفي- مبلغا عظيما، لدرجة أننا دائما ما نميل للهروب من التعبير عن مشاعرنا بشكل عام -اللهم إلا الخناق مع دبان وشنا- بل وأيضا نقاوم بشدة تلقي المشاعر من الآخرين حتى لا ننزلق لما لا يحمد عقباه. تخيل! تلقي المشاعر وهو الفعل الذي من شأنه \”رجلشة\” مزاج حضرتك، صار تهديدا لابد من مقاومته واقصائه كفيروس الأنفلونزا الموسمية!
لقد ارتقينا طوعا سلم الخوف والهرب، وعمدنا إلى الاختباء والمكابرة والعناد في احتياجنا الفطري للاستقرار، لأننا ببساطة مرعوبون. نخاف التعود خشية الفقد، نتحاشى الحلم إذا اتسع لأكثر من شخص، نرتعد من شبح ذوبان من أحببناهم بلا مقدمات، وتغير من ظنناهم يوما كعبة في حياتنا.
ونتيجة لما سبق، فقد آثرنا الموت البطيء على تلقي صفعة أخرى. أصبحت شبهة التعاطف مع أي شخص أو الارتباط نفسيا به \”شبهة\” فعلا، تهديدا لأمنك القومي، وتعاطي المشاعر أصبح أخطر من تعاطي المخدرات، فأنت تعلم جيدا أن العلاقة طردية منذ الأزل \”محدش بينجرح قوي إلا لما بيحب قوي\”.
ولأننا نعي تماما أن فرص الانفصال دائما أعلى بكثير من فرص الاستمرار، وقد أعيانا الانفصال، فهيأنا أنفسنا لذلك بضربات استباقية موجهة لأنفسنا أيضا، قبل أن تأتي من الآخرين! وإن كان الألم حتميا في هذه المعركة، فليكن\” بيدي لا بيد عمرو\”، لأن عمرو غالبا هيطلع زيهم وهيروح ويجرحنا هو راخر.
فلنتمسك إذا بحالة اللا حرب واللا سلم.. إحنا تمام قوي كده.. أيوة إحنا \”زي الفل\”.
واسأل زياد الرحباني حين قال: \”كل ما تسألني كيفك بقلك أنا منيح، وأكيد مش منيح بس أنا مزبطها مرجلشها\”.. حتى زياد بيرجلش أهو، أحسن منه حضرتك؟!
