شيماء عبد العظيم تكتب: أسود مغلف بالألوان

الله يرحمه.. بابا الله يرحمه!
\”بابا الله يرحمه كان بيعمل كده، وبيحب كذا\”.

أصبحت أقرن رغما عن إرادتي لفظا جديدا وصيغة ماضٍ قاسية تتبع كلمة \”بابا\”، الكلمة التي بقيت حاضرة مفعمة بالحياة والقوة طوال الثلاثة وثلاثون عامًا الماضية (هي مجموع عمري)، قوة تكاد توحي بأنه ضد الموت.

وبالرغم من التصاق لفظ الرحمة -المريح في مضمونه- بالكلمة، لكن الجملة يملؤها الألم.

أكررها كثيرا على مسامعي، ربما لتأكيد فكرة رحيل والدي، وكأني أنعش ذاكرتي كل بضع دقائق بالحقيقة المفزعة، أو علَني أدرك الفاجعة التي ينكرها عقلي تماما.
البقية في حياتك..
أكره كلمات العزاء وأكره أكثر منها إصرار المعزين بشكل خانق على تأكيد حدث لم أتمكن بعد من استيعابه.

طوال فترة العزاء وما بعدها، ظل صوت يتردد في رأسي بعنف ردا على لفظ \”المرحوم\” أو\”البقية في حياتك\” بأن \”كفاية.. أنا لسه ما وافقتش ولا استوعبت ولا قادرة أتقبل الفكرة\”.

كل كلمات العزاء والمواساة على اختلافها يترجمها عقلي بجملة واحدة: \”باباكي مات\”، تهوي على مسامعي كالمطرقة بلا هوادة أو رحمة، ولك أن تتخيل عدد المرات التي اضطررت لابتلاع ألم تلك الجملة بها خلال الأسابيع القليلة الماضية.

لماذا أقر الله العزاء مباشرة بعد فاجعة الموت؟! ألم يكن من سبيل لبعض الوقت حتى نتمكن من هضم فكرة اختفاء شخص عزيز من الوجود؟!

للتأقلم مراحل، أولها الإنكار، التيقن، التقبل، ثم الشفاء! لم أُمنح رفاهية التدرج بعد.
كليشيهات:
دايما كنت بسمع كليشيهات من أصدقاء مروا بالتجربة قبلي: \”الأب سند\”، \”أمان\”، \”حماية\”، \”هتندمي بعدين لو زعلتيه\”.. جمل كانت تبدو منطقية أكثر منها ذات معنى ملموس، وفجأة باتت تنطق بالمعنى، ترتد لرأسي وكأني أسمعها للمرة الأولى بنكهة الحقيقة.

لا أدري لماذا تتكشف الحقائق وتتجلى المعاني دائما عند النهايات فقط!
أسود مغلف بالألوان:
أكره اللون الأسود كثيرا، لا ينتمي لخزانة ملابسي بتاتا.. دولابي يبدو كصندوق الدنيا، أو كبوابة لقوس قزح.

فجأة، وفي غفلة من الزمن، أصبح المنزل يكتظ بالسواد، شعور خانق ومقبض، نقص حاد بالأكسجين في فضاء البيت.

أرفض إبداء الحزن عن طريق المظاهر، أرفض إبداء الحزن بشكل عام، لم أرتد الأسود بالكامل في حياتي إلا خلال فترة العزاء، وفقط لمقابلة المعزين.

السواد الحقيقي هو ما يحتل التفكير، ويذيب القلب، ويجثم على الصدر..  الحزن الحقيقي لا يُرى، فقط يقتسم أنفاسك كل دقيقة وأنت مغلف بالألوان أو مرتديٍ ابتسامة جبرية.
شكرًا:
إذا أتيحت لي الفرصة للحديث مرة أخيرة مع والدي -حيث إنني لم أتمكن من وداعه بشكل لائق- فلن أطيل، فقط سأشكره.
شكرا لتنشئتنا بهذا الشكل المشرف.
شكرا لكونك دائما كالجبل، قوة نستمد منها جميعا صلابة لمواجهة الحياة.
شكرا لكونك مثالا لمعنى الرجولة الحقيقية، الرجولة التي لا تُنتقَص، بل تزداد بهاء واحتراما بمساعدة الجميع في أبسط الأعمال.
شكرا لتأدية واجبك على أكمل وجه، حتى يوم رحيلك أبيت الفراق قبل أن تطمئن على الجميع، على والدتي فاصطحبتها للطبيب، على صديق عمرك الراقد في غيبوبة منذ فترة، عليّ وعلى أختي، فكانت آخر كلمة أسمعها منك هي: \”اتغديتي؟ طيب كويس\”.
شكرا بابا.. هتوحشني جدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top