شريف عازر يكتب: مفهوم العدالة عند المصريين

في الفترة الأخير قررت أن أكرس وقت لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال: ما هو مفهوم العدالة عند المصريين؟

واضح جدا أن معظم المصريين لديهم لبسا في هذا الموضوع، بالرغم من أن هناك منظومة قانونية في مصر وأن الموضوع لا يتطلب أي اجتهاد من أحد, كل المطلوب هو الاعتراف بأن المنظومة القانونية الحالية هي مصدر العدالة،

وحتى لو هناك عوار قانوني، فهناك أيضا إجراء قانوني لعلاج هذا العوار، وبالرغم من ذلك يظهر لك مما تسمعه من الناس، وما تقرأه في مواقع التواصل الاجتماعي، هو أن كل مواطن مصري كوّن فكرة شخصية عن العدالة.. هذه الفكرة هي خلاصة ما تلقاه هذا الشخص من خليط من التعاليم الدينية والموروثات الاجتماعية، وكلها لا علاقة لها إطلاقا بالنصوص القانونية في مصر، فأصبح المواطن يؤمن برؤية معينة للعدالة يعتقد فيها أنها تمثل نوعا من التوازن الفطري وتحقق نوعا من الثأر والتشفي للضحية، بغض النظر عن كون هذا له أي مرجعية قانونية أم لا.

فمثلا تجد المواطن المصري مؤمنا تماما بأن المجرم يستحق كل أنواع العقوبات، في نفس الوقت طالما هو مجرم، وتجده أيضا لا يمانع استخدام التعذيب مع المجرم ومعاملته أسوأ معاملة \”الله مش مجرم بقى\”، ومهما تحاول أن تقنعه أن التعذيب جريمة حتى ولو كان لمجرم عتيد الإجرام، لكنه يرفض هذه الفكرة تماما، لأنها تتناقض مع مفهومه للعدالة, لأن المجرم لازم يتعذب ويتبهدل, ده هو العدل استنادا للمبدأ الاجتماعي في معاقبة حرامي الشباشب في جامع.

ومثلا عندما نتحدث عن عقوبة الإعدام, يؤكد لك المواطن المصري أن العقوبة مهمة جدا ورادعة، لأنها تتماشى مع الدين \”العين بالعين\”, وللعلم حتى المسيحيين في مصر مؤمنين بهذا، بالرغم من أن المسيحية قالت عكس ذلك صراحة، وهنا تتجلى الوحدة الوطنية في خلق مفهوم العدالة الجمعي، الذي يتشارك فيه الجميع بغض النظر عن الدين، لأنه كما قلنا مفهوم العدالة هو خلاصة الدين والمجتمع.

وعندما تتحدث مع أحدهم حول الإعدام، يبدأ بإطلاق عبارات عنترية لا تمت للقانون المصري بصلة، مثل \”يعدم في ميدان عام\”, \”يبادوا إبادة جماعية\”, \”يحرق بجاز وسخ\”، فلا تعلم بالتحديد من أين جاءوا بفكرتهم عن الإعدام في مصر!

يؤمن المواطن المصري بمبدأ متميز جدا، ألا وهو أن هناك من يستطيع أن يقضي العقوبة نيابة عن آخرين.. طبعا مش محتاج أقول أن هذا يتعارض مع القانون والدستور، لكن يبرع المواطن المصري في تجسيد قناعاته الشخصية بمفهوم العدالة بأنه يرضي أن يحاكم شخص ما لكونه ينتمي لجماعة معينة نيابة عن باقي الجماعة, حتى لو معنى هذا أن المجرم الحقيقي سيظل طليقا دون عقوبة, بس المهم إن العدالة في مفهومها المطلق تتحقق دون النظر للشكليات!

يؤمن أيضا المواطن المصري بأن هناك عقوبة لشخص ما \”عن مجمل أعماله\”.. يعني مش شرط إنه يتحاكم بذات الجريمة اللي ارتكبها، بس لو هو ليه في الإجرام عامة، فممكن نحاكمه بأي تهمة وخلاص، طالما ستفي بالغرض وتحقق العدالة بحسب المعتقد المصري! فتجد المصري يطلق مثلا شعار \”من أعمالهم سلط عليهم\”، لتبرير أن شخصا ما أتحاكم بتهمة لم يرتكبها، لكن لأن لديه سجل من الجرائم الأخرى، فعادي جدا, لأنه \”هو اللي جابه لنفسه\”.. طبعا مش محتاج أذكر عزيزي القارئ أن القانون المصري مافيهوش أم ريحة الكلام ده.

أما بالنسبة لمبدأ تناسب العقوبة مع الجريمة، فحدّث ولا حرج.. المواطن المصري يؤمن بمبدأ متميز جدا في هذا الصدد, ألا وهو كما قال صديقي سادات العالمي \”عبيله وإديله\”, بمعنى أن العقوبة بالبركة كده، واللي ييجي من القاضي رضا، وكتر خيره، فنجد المواطن المصري يهلل لحكم المؤبد للمتحرش جنسيا, بعد سنوات طويلة من السكوت على الجريمة، لكنه رأى أن العقوبة مناسبة، لأن الحادثة حصلت في مظاهرة تأييد للنظام، وتجد المصري لا يمانع في حكم 1500 حكم إعدام، لأنه فعليا يمثل أروع أمثله مبدأ عبيله وإديله، خصوصا أن المتهمين محسوبين على جماعة الأشرار فقشطة.

يتميز مفهوم العدالة المصري أيضا بموضوع ظريف جدا, ألا وهو: لا مانع من تداخل القضايا في بعض، طالما أن هذا سوف يحقق التوازن العام للعدالة المطلقة للمواطن المصري, فنجد المصري عندما تتحدث معه عن قضية المتهمين في عرب شركس مثلا وجرائمهم، يقفز بك إلى قضية كرداسة ويقول لك: \”إنت ما شفتش عملوا إيه في الظباط في كرداسة؟\”، فتستنتج من مجمل الحوار أن المرتكب الفعلي للجريمة لا يمثل أهمية كبيرة، طالما أن هناك عقوبة ما وقعت على شخص ما يستطيع عقل المواطن المصري ربط علاقة ما بينه وبين جريمة أخرى سمع عنها, فيفرح، لأن هذا هو العدل المطلق الذي يعلو فوق التفاصيل والأشخاص.

يمتد مفهوم العدالة المصرية لمستوى أعلى بكثير مما يتخيل أحد, فنجده يصل لمرحلة الخيال العلمي -إستنادا لفيلم \”ماينوريتي ريبورت\”-  فتجد المواطن المصري يؤمن بأنه يجب معاقبة المجرم حتى قبل أن يفكر أو يجول بخاطره أو تسول له نفسه أن يرتكب الجريمة, وده طبعا تطبيقا لمبدأ \”نتغدى بيه قبل ما يتعشى بينا\”، فتجد المصري يطالب بمعاقبة شخص ما لأنه سوف يرتكب جريمة في المستقبل, طبعا لا نعرف مصدر الثقة التي تنتاب المصري في مثل هذا الموقف، لكنه مدرك تماما لما يقول ومصمم على موقفه، وتجلى هذا المبدأ في وقت حادثة فض رابعة عندما طالب المصري بالقضاء على كل من في الميدان، لأنهم في المستقبل سيتحولوا لإرهابيين, وعندما تم فض رابعة بالعنف وتوالت الأحداث الإرهابية بعدها انتقاما للغشومية التي تم استخدامها في الفض، طلع علينا المواطن المصري وقال كلمته الشهيرة: \”مش قلتلكم, أهم طلعوا إرهابيين أهم\”.

يطبق المواطن المصري في مفهومة عن القانون مبدأ الإسقاط العائلي, فتجده عندما \”يتزنق\” في الكلام، يخرج عليك بالسؤال اللي هو حيثبتك حيثبتك فيه يعني، وهو: \”يعني لو ده كان قتل أخوك ولا أبوك واغتصب مراتك، كنت حتقول كده بردو؟\”، وبعد أن تعبر عنك أعراض الاحتقان ما بين الفخذين، ترد عليه ردا بسيطا وطبيعيا: وهو لو قتل أخويا واغتصب مراتي.. أنا عايز القانون يتطبق عليه!\”.. طبعا يصدمك المواطن المصري بنظرة الاستنكار والاحتقار التي ترتسم على وجهه، ويقول لك: إزااااي ده؟ أنت لازم تقطعه بسنانك وتاكل كبده وتحرق جثته وتروح تقتل عياله بعد ما تغتصبهم وتغتصب مراته وتحرق جثتها بعد ما تصلب عيالها معلقين من أنفهم مغطسين في الزيت المغلي.

لا أعلم من أين يأتي المواطن المصري بكل هذا الخيال الخصب في التفنن في الانتقام والتشفي من أي مجرم، متخيلا أن هذا المجرم قام باغتصاب امرأته ولازم أنتقم منه؟ ويرى المواطن المصري أن كل مجرم قد أجرم في حقه شخصيا ويجب أن ينتقم منه شخصيا؟ّ! من أين جاء بهذه الميول الغريبة؟!

لا نعلم, لكنها بالتأكيد تتماشى مع المفهوم الشامل الكامل للعدالة المصرية.

و يتجلى مفهوم العدالة المصرية – في أروع صوره – عندما تسمع من أحدهم المقولة ذات العمق الفلسفي الرهيب: \”ده مش وقت تطبيق قانون, البلد في حالة استثنائية\”، فتنظر للمواطن المصري وتحاول فهم ما يدور في عقله، فتعجز!

هل تصدمه وتقول له الحقيقة المرة إن القوانين اخترعت خصيصا لمثل هذه الحالات الاستثنائية, لأننا لو كنا عايشين في يوتوبيا.. مكانوش اخترعوا القانون أصلا, ولا إيه؟ لكن يؤكد لك المصري أن القانون هذا اختراع الضعفاء وأنه لا يمثل أي أهمية مقارنة بالمفهوم المصري للعدالة المطلقة، والتي لا تلتزم بهذا القانون البشري الحقير، فالعدالة المصرية تسمو وترتفع عن هذه الإجراءات العجفاء التي طالما تحايل عليها المجرمون، وفلتوا بفعلتهم، لكن لن يهربوا من العدالة المصرية العظيمة، لأنها ستنالهم بشكل أو بآخر لأنها أعظم وأعمق وأشمل وأعم من نطاق العدالة القانونية المحدود في نصوص وكلمات, بينما تعجز الكلمات عن إحتواء المفهوم العام للعدالة المصرية المطلقة.

وتبدأ الحرب الحقيقية والتصادم الفعلي مع العدالة المصرية، حينما تحاول أن تدافع عن المنظومة القانونية في مصر, لأنك سوف تصطدم بحائط مهول من المعتقدات المكونة للمفهوم المصري للعدالة.. أول معضلة ستواجهها هي أنهم سوف يتهمونك بأنك تدافع عن المجرمين والإرهابيين, لأن في فكر المصري لا يمكن أن يكون القانون المصري يعطي حقوقا للإرهابيين، وإلا فهذا القانون باطل بحسب عرف المصري!

وكون أنك تطالب بتطبيق القانون، فلا يمكن تفسير موقفك إلا بأنك إرهابي مثلهم أو متعاطف معهم.. لا يدر بخلدهم للحظة أنك تدافع عن القانون الذي قام المصري الصميم بالسمو عليه بمفهومه الشخصي, فظهر كل ما عاداه مجرد ترهات وهرتلات لمجموعة من المخابيل يتحدثون عن تطبيق قانون مكتوب، بينما يعرف الجميع معنى العدالة الحقيقي وما يجب أن يعمل.

وفي النهاية.. لا أستطيع اللوم على المواطن المصري في وصوله لهذه المرحلة من التدهور القانوني في مفهوم العدالة، لأنه أولا وأخيرا ضحية سنوات طويلة، كان النظام – ولا يزال- يتعامل مع القانون على أنه كماليات وحلية جمالية للدولة، بينما في الواقع لا يخضع أحد لهذا القانون، وأولهم القائمون على تنفيذ القانون أنفسهم, أي السلطة التنفيذية، فنشأت أجيال بأكملها لا تعلم ما هي قيمة القانون وما قد يعود على الدولة بتطبيقه، ويتعجبون لماذا دول العالم المتقدمة متقدمة وإحنا متأخرين؟! ولا يخطر على بالهم قط أنه ربما لأن في هذه الدول قانونا حقيقيا تقوم سلطة حقيقية بتنفيذه, على نفسها أولا قبل المواطن.

عزيزي المواطن المصري.. لن تصبح مصر دولة، ولن تستقر ولن تنمو وتصبح آآآآآآد الدنيا، بدون تطبيق القانون.. فكك بقى من أم المفهوم المصري للعدالة اللي أنت عايش فيه ده، وطالب الدولة بتطبيق القانون بجد, لأن ده هو الأمل الوحيد.. والأخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top