عند قيام ثورة يناير في 2011 حدث الانشقاق الأعظم في الشعب المصري.. أنقسم الشعب بين الثائر أو المؤيد للثورة, وبين المعادي للثورة والمؤيد للدولة.
في ظاهر الاختلاف يبدو لك الفرق وكأنه خلاف سياسي وصراع إيديولوجي بين من هم مؤمنون بالحرية والحقوق والديمقراطية والعدل والعدالة, وبين من هم مؤمنون بالنظام القمعي والقبضة الحديدية للدولة. ولكن عندما تنظر للشعب المصري ما قبل 25 يناير، تجد أنه من الصعب جدا أن يكون هذا الشعب المحروم من التعليم ومن الثقافة ومن التفكير أصلا، بأن يكوّن فكرا سياسيا في يوم وليلة بمثل هذه السرعة.. إذن هناك عامل آخر جعل مواطنا ما يتخذ موقفا ما من الثورة في مثل هذا الوقت القصير، والذي ربما يكون قرارا لحظي.. ترى ما هو هذا العامل الجوهري في اتخاذ مثل هذا الموقف؟
أنا شخصيا أرى أن مثل هذا القرار اللحظي جاء من نقطة بالغة العمق في شخصية كل واحد منا.. هناك شخص ما يفكر في الآخرين أكثر مما يفكر في نفسه.. هذا الشخص يغلّب المصلحة العامة على مصلحته هو شخصيا. ربما في علم النفس هي قريبة لفكرة يسمونها الغيرية, عندما يكون وجود الشخص منبعه الآخرين، فمن قرر الانضمام للثورة هو شخص مقتنع تماما أن هناك ضررا ما سيقع عليه شخصيا, مثل خسارته لعمله أو تجارته, افتقاده لشعور الأمان وتعرضه للتهديد المتواصل, وقد يصل هذا الضرر لدرجة تعرضه للضرر الجسدي المباشر، وقد يتمثل في الحبس أو التعذيب أو حتى القتل.. مثل هذا الشخص لا يعبأ بما قد يتعرض له شخصيا من ضرر في مقابل أن تتحقق مصلحة عامة لجميع أفراد الشعب. فهو على أتم استعداد أن يتقبل أي من الأضرار السابق ذكرها وغيرها لمجرد -حتى ولو احتمال ضئيل- حدوث تغيير للأفضل في البلد.
عندما يرى مثل هذا الشخص الهدف الأسمى الماثل أمامه في المنفعة العامة ومستقبل دولة أفضل, يتضاءل تماما أي خوف داخله من أي أزى قد يتعرض له, وتصبح قضية تغيير وضع البلد للأفضل، هي كل ما يسيطر على عقله، وربما يجعله يقوم بأعمال طائشة نتائجها غير محمودة على المستوى الشخصي، لكنه مستعد تماما لمثل هذه المخاطرة.
أما الشخص الذي قرر أن يكون ضد الثورة، هو الشخص الذي يفضل المنفعة الشخصية السريعة على المنفعة العامة التي قد تأتي أو لا تأتي.. هذا الشخص يرفض أي شيء, مهما كان الغرض من ورائه نبيلا, من شأنه أن يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على حياته الشخصية.
الجدير بالذكر هو أن حياته الشخصية قد تتضمن أيضا أفراد عائلته المقربين، فالشخص الذي قرر أن يرفض الثورة بالرغم من إدراكه التام أن الثورة قامت ضد استعمال الشرطة للقسوة والظلم للحفاظ على الأمن، هو يرفضها لأن عنده الاختيار بين المخاطرة بتعطيل الجهاز الأمني أملا في إصلاحه، وبين استمرار الجهاز الأمني بالرغم من كل جرائمه، هو اختيار محسوم.. بالطبع سيختار الدفاع عن كينونة الجهاز الأمني، لأن المخاطرة بضعف الحالة الأمنية قد يتسبب في ضرر مباشر عليه شخصيا, مثل انتشار السرقة أو ما شابه، مما يؤثر على إحساسه بالأمان أو ضرر مباشر له أو لعائلته.
هذا الشخص الرافض للثورة مستعد أن يقبل من جهاز الشرطة أن يقوم بتعذيب مواطن آخر طالما ليس من أفراد عائلته, بل وقد يؤيد مثل هذه الممارسات اعتقادا منه أن الأمن بالتعذيب يستطيع الحصول على اعترافات من شأنها حماية أمنه الشخصي.. مثل هذا الشخص كان الخيار الذي أمامه يوم الثورة هو بين أن يخاطر بأمانه الشخصي ويؤيد عملا يحمل في طياته مظاهر عدم الاستقرار وانعدام الأمن، أملا في مستقبل أفضل, وبين عدم الاكتراث بالمستقبل المأمول وحماية اللحظة الحالية وتوفير الأمان الشخصي له ولعائلته.
وبالطبع كان الاختيار سهلا جدا بالنسبة له، لأن مثل هذه الشخصية (قريبة من فكرة الإنيّة والأنانية في علم النفس) هو شخص صريح مع نفسه وواضح: لا تضحيات شخصية في مقابل منفعة عامة.
مثل هذا الشخص من المتوقع منه الدفاع بشراسة وضراوة عن أي شيء يمثل الإبقاء على الوضع الآمن مهما كان الثمن، وقد يلجأ مثل هذا الشخص للحيل الدفاعية النفسية مثل اتهام من هم مستعدون للمخاطرة بأنهم خونة وعملاء وأشرار، حتى وهو مدرك تماما أنهم أبرياء وحسنو النية. وذلك قد يعود أيضا لفكرة أن من تغلب عليه النزعة الإنيّة ربما قد لا يدرك مطلقا عقلية شخص ما مستعد أن يتنازل عن المنفعة الشخصية في مقابل المنفعة العامة.
أعتقد أن الجدال الدائر في مصر يجب أن يتم تناوله بعيدا عن السياسة، وخاصة في المستوى الشعبي، والتركيز أكثر على الناحية الشخصية والنفسية للفرد، بدلا من الدخول في مجادلة سياسية ربما ليست هي المشكلة أصلا.
ربما علينا نحن معشر الثوار أن نخاطب الناس بلغة بسيطة بعيدة عن لغة السياسة المعقدة.. لغة تخاطب الاحتياجات الشخصية واليومية والنفسية للفرد، بدلا من محاولة الاندماج في جدال أيديولوجي، هو بعيد كل البعد عن المشكلة الحقيقية، وسبب الانشقاق الحقيقي بين الينايرجي والدولجي. أعتقد أيضا أن شعبية النظام الحالي تعتمد تماما على مثل هذا العنصر. فالنظام حاليا يخاطب الشعب فقط بلغة الاحتياج, وبالأخص لغة الاحتياج للأمان والاحتياج الاقتصادي.. لن تعود للثورة شعبيتها إلا إذا تخطت الحاجز الأيديولوجي الفكري، وخاطبت الناس بما يفهمون على المستوى الشخصي.
وللحديث بقية.