بغض النظر عن ما يحدث الآن و مهرجان الإعدام للجميع برعاية القضاء المصري، من قضاة يستسهلون الأحكام بالإعدام لإرضاء النظام والرأي العام، لأنه ليس هناك تفسير قانوني واضح يفسر الإسراف في أحكام الإعدام بهذا الشكل في قضايا معقدة جدا وشائكة.. يعني مثلا لو أن محمد مرسي فعلا مجرم وجاسوس، فكيف وصل إلى رئاسة الجمهورية في حماية المجلس العسكري ومن ضمنه رئيس المخابرات الحربية وقتها، والذي يحكم مصر حاليا؟ لو أن القاضي وصل بهذه السهولة لقناعة أن أحكام الإعدام الجماعي هي الحل، لذا وجب علينا أن نتحدث قليلا عن مشكلة عقوبة الإعدام من منظور قانوني وإنساني، حتى يكون هناك وعي أكبر عند العامة، بما وصل إليه العالم فيما يتعلق بعقوبة الإعدام.
هناك بعض النقاط التي يجب أن يدركها كل من يؤيد عقوبة الإعدام، فمثلا الفقه العقابي في القانون المصري قائم في الأساس على أن الغرض من العقوبة ليس هو التنكيل والتشفي، وإنما لغرض إصلاحي لإعادة تأهيل المجرم، لكي يتم دمجه مرة أخرى في المجتمع، فمثلا ترفع السجون المصرية شعار \”السجن تأديب و تهذيب وإصلاح\” تطبيقا للفقه العقابي في القانون المصري، وليس لغرض تعذيب المجرم والتنكيل به.. يسمح القانون المصري في بعض الجرائم الخطيرة بعقوبة الإعدام، والمفروض أنها في حالات نادرة جدا، حيث يصعب جدا إصلاح المجرم، اعتقادا من القاضي أنه لا أمل إطلاقا في إعادته للمجتمع مواطنا صالحا، ولذلك ففي جميع حالات أحكام الإعدام يتم فيها النقض تلقائيا حتى وإن لم تحرك دعوى من المحكوم عليه.. نستنتج من هذا أن أي قضية يحدث فيها أحكام جماعية بإعدام، هي مثال سافر على الإخلال بالفقه العقابي في القانون المصري.
تختلف العدالة جوهريا عن الانتقام، فحكم الإعدام ليس إلا أثرا باقيا من نظام قديم قائم على الانتقام، وبمقتضاه، فكل من يسلب حياة ينتظره نفس المصير. وإذا مددنا هذا المفهوم على استقامته لتوجب سرقة السارق، وتعذيب المعذب، واغتصاب المغتصب، وقد تسامت العدالة على هذا المفهوم التقليدي للعقاب بتبنيها لمبدأ العقاب الرمزي، الذي يتناسب في الوقت ذاته وحجم الجريمة: الغرامة، وأحكام السجن، …إلخ. وفي هذا المبدأ حفظ لكرامة الضحية والمذنب في نفس الوقت.
ترتكز فكرة العدالة أيضا على مبدأي الحرية والكرامة، حيث يمكن ويجب أن يعاقب المجرم – رجلا كان أم امرأة- لأنه ارتكب بكامل حريته فعلا يخل بالنظام القانوني، ولهذا السبب لا يعد الأطفال والمعاقون ذهنيا مسؤولون عن أفعالهم، وينطوي مفهوم الإعدام ذاته على تناقض كبير. ففي لحظة الحكم، عندما تتم إدانة المتهم، وبالتالي اعتباره قد ارتكب فعلا بكامل حريته ووعيه، تقتضي هذه العقوبة التي لا رجعة فيها سلبه هذه الحرية ذاتها، وفي الواقع فإن حرية المرء يتم تعريفها أيضا بأنها قدرته على تغيير وتحسين مجرى حياته. ولكونها لا رجعة فيها، تتعارض عقوبة الإعدام وفكرة إعادة تأهيل المجرمين ودمجهم في المجتمع، لذا فهي بكل بساطة تتعارض ومفهومي الحرية والكرامة.
وهناك نقطة أخرى متعلقة بأن عقوبة الإعدام لا رجعة فيها، هي احتمالية الخطأ في الإجراء القانوني، وهي احتمالية موجودة حتى في أكثر الأنظمة القضائية كفاءة وتعقيدا, ناهيك عن أن معظم الأجهزة التحقيقية والأمنية في مصر والشرق الأوسط تعتمد بالأساس على التعذيب كأداة فعالة لإنهاء القضية باعتراف المتهم. إذن فهناك احتمالية الخطأ غير المقصود، واحتمالية الانتهاك الصارخ باستخدام التعذيب, مما يجعل الوصول لعقوبة الإعدام التي لا رجعة فيها شيئا مخيفا في ظل هذه الظروف.
ولهذا السبب قام الحاكم \”رايان\” Ryan بتجميد هذه العقوبة بولاية إيلينوي بأمريكا، عقب اكتشافه أن ثلاثة عشر معتقل ممن ينتظرون تنفيذ عقوبة الإعدام بينهم في واقع الأمر أبرياء من الجرائم التي اتهموا بارتكابها؛ كما أمر في يناير 2003 بتخفيض 167 حكم بالإعدام إلى السجن مدى الحياة.
ويؤكد تقرير المفوضية التي شكلها الحاكم بهذا الشأن أنه \”بسبب الطبيعة البشرية ونقاط ضعفها، لن يمكن أبدا وضع نظام يعمل بشكل مثالي، ويضمن بشكل مطلق عدم الحكم بعقوبة الإعدام على أبرياء\”، وفي هذه الحالة، وكما أعلن وزير العدل الفرنسي ر. بادينتر R. Badinter في عام 1981، \”فالمجتمع بأكمله- أي نحن جميعا- الذي نطق الحكم باسمه، يصبح مسؤولا مسؤولية جماعية، لأن نظامه القضائي جعل الظلم المطلق ممكنا\”. وإن تقبل احتمالية الحكم بالإعدام على أبرياء من قبل مجتمع بأسره، يعد خرقا لمبادئه الأساسية المتعلقة بعدم المساس بالكرامة الإنسانية وبمفهوم العدالة ذاته.
وطبعا، وبما أننا نناقش الحالة المصرية، فيجب أن نذكر بعض القضايا المعروفة، والتي تم فيها الاعتراف بالقتل تحت التعذيب، وأخذت المحكمة النتيجة التحقيقات، وعلى أساسها حكمت بالإعدام ظلما.
أشهر قضية في هذا الموضوع هي قضية الممرضة عايدة نور الدين من الإسكندرية، والتي تم اتهامها بقتل المرضى في المستشفى الجامعي في الإسكندرية، وتم إلقاء القبض عليها والتحقيق معها وتعذيبها حتى اعترفت، وبعد أن حكم عليها بالإعدام، وقبل تنفيذ الحكم، ظهرت حالات قتل بنفس الطريقة بالرغم من أنها في السجن, فما كان من محاميها الأستاذ آمر أبو هيف، والذي التقيته شخصيا بخصوص هذه القضية، إلا أنه استخدم هذه الأدلة الجديدة، وفعلا تم في 1999 تخفيض التهمة من قتل عمد، لقتل خطأ، وتم تخفيض العقوبة من إعدام لسجن خمس سنوات.
وهناك أمثلة عديدة في نفس السياق، مثل قضية محمد بدر الدين في 1996 في الإسكندرية، والذي اعترف تحت التعذيب أنه قتل ابنته المختفية، وتم توجيه تهمة القتل له والمعاقبة بالإعدام، لكن تشاء الأقداء أن يتم العثور على ابنته حية، ويتم تبرئته بعد أن كان على أعتاب الإعدام.
من أكثر المبررات شيوعا من أجل الإبقاء على عقوبة الإعدام، هو فاعليتها: إذ يفترض أنها تحمي المجتمع من أكثر عناصره خطورة، كما أن لها تأثيرا رادعا على المجرمين المستقبليين، وقد ثبت بطلان هذا الزعم في أكثر من حالة.
هل تحمي عقوبة الإعدام المجتمع؟ فعلاوة على أن المجتمعات التي تطبق عقوبة الإعدام ليست أقل تعرضا للجرائم من تلك التي لا تقوم بتطبيقها، فإن هناك عقوبات أخرى تهدف لنفس الغاية، وعلى رأسها السجن.. حماية المجتمع لا تنطوي إذا بالضرورة على تصفية المجرمين جسديا.
فيما يتعلق بـالطابع الرادع لعقوبة الإعدام أو غيرها من الوسائل العقابية التي تتسم بالقسوة، فقد أتضح أن فاعلية هذه العقوبات في الردع مجرد خدعة. وتشير الدراسات إلى أن عقوبة الإعدام لم تسهم البتة في خفض معدلات الجريمة في أي مكان.. ففي كندا مثلا كان معدل جرائم القتل في عام 1975، أي قبل إلغاء عقوبة الإعدام في قضايا القتل بعام، قد سجل رقما قياسيا هو 3,09 جريمة لكل 100 ألف شخص، بينما انخفض إلى 2,41 جريمة في عام 1980. وفي عام 2000، وبينما أحصت الشرطة الأمريكية 5,5 جريمة قتل لكل 100 ألف شخص، سجلت الشرطة الكندية نسبة لا تزيد عن 1,8 جريمة لنفس عدد السكان.. إن أحدث الإحصاءات في هذا المجال، والتي قام بها رودچر هود Roger Hood في عام 1988 بتكليف من الأمم المتحدة، وتم تحديثها في عام 2002، تخلص إلى أن \”كون الإحصاءات مازالت تشير إلى نفس الاتجاه يثبت بشكل مقنع أنه لا يتوجب على الدول أن تخشى وقوع تحولات مفاجئة أو خطيرة في منحنى الجريمة بها في حال تراجع ثقتها في عقوبة الإعدام\” وليس ذلك بالشيء الغريب، فالمجرمون لا يرتكبون أفعالهم وهم يقيمون عقوبتها المحتملة، ويتأهبون للسجن مدى الحياة بدلا من الإعدام.
(بعض أجزاء هذا المقال مأخوذة من تقرير الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان حول حكم الإعدام في مصر الصادر في 2006 والذي شاركت في كتابته)