يكون أول دافع للكاتبة أو الكاتب ليكتب، هو أن يعبر عن مكنونات ذاته ويقول رأيه فيما حوله وفيمن حوله. قد تبدأ رحلته وهو طفل يختلي في غرفته ليكتب. ربما أراد أن يشتكي العالم أو أن يوآنسه القلم وهو يبكي وحيدا، ليجد الأوراق تمتص دموعه وتحتفظ بها، ربما أراد أن يراسل الله ليكتشف صلاة غير تلك التي عودوه عليها وحفظوه ما يجب ترديده أثنائها من الأدعية ونسوا أن يقولوا له: ادع الله وخاطبه بما في قلبك وحسب، ربما أراد أن يسطر أحلامه وطموحاته حتى يجدها دوما بين يديه ولا ينساها، لكن الأكيد أنه وقتها لا يكذب على الأحبار والأوراق، يمارس الكتابة على أنها الوضوح المطلق الذي لا يستطيع ممارسته في الواقع، ويكتشف أنها صوت من لا صوت له، وهو يراها ملاذا له كطفل يدفعه الكبار لقول ما لا يريد، ويوبخوه عندما يقول ما لا يعجبهم، فيشعر أنها عادة مقدسة كلما مارسها أصبح أكثر إتقانا للصدق مع الذات، يمارس من خلالها المواجهة ويتعلم الشجاعة، وعندما يكبر قليلا وتتفتح عيناه على العالم خارج بيته، تجذبه الكتابة إلى آخرين غيره من مظلومين وفقراء، فيكتشف الضمير ويدفع قلمه للتحدث عنهم كما تحدث عنه، فيصير لقلمه صوتا أعلى بعدما يشكل ما يشبه بالكورس الغنائي. يكبر الكاتب الصغير ويكبر عقله ليذهب إلى آفاق أبعد عندما يسمع عن قضايا كبيرة وبلاد بعيدة وأحداث مهمة تستفزه ليكتب عنها، فقد تعود أن يبدي رأيه في أي شئ يثيره، ولكن الكتابة كانت سهلة عندما كان يتحدث عن خلجات نفسه التي يعرفها جيدا، أما تلك الأمور، فتحتاج للمعرفة أولا، فيقرأ ويقرأ حتى يصير مثقفا ويتمكن من الكتابة عن مختلف المواضيع.
الى أن يحدث له منعطف خطير وأمر لطالما تمناه، وهو أن ينشر كتاباته لتخرج للنور ويسمع صوته العالم بأكمله، ويتذكر أمانيه بالجهر بآرائه وإيصال أصوات المكممين، يذكر الضمير والمهمة المقدسة، ويتخيل كيف سيرسم قلمه عالما أفضل، العالم الذي تمنى أن يعيش فيه ذلك الطفل الباكي وهذا الشاب الطموح.
ينشر كتاباته ويثبت نجاحاته وتبدأ شهرته، ولكن هنا تبدأ المصيبة.
يجتهد بالطبع ليكتب بمقابل مادي يرضيه، ولا بأس في ذلك، فللجندي راتب وللشيخ راتب وللمعلمين والأطباء رواتب، لكن حبه للكتابة يتحول لحبٍ للشهرة، وأصبح يرى أن نجاح الكاتب يُقاس بها قبل أن يقاس بسعر عمله، بل هي من تحدد سعر عمله، ولكي يحافظ على شهرته عليه أن يستمر ويستمر وينتشر وينتشر، عليه أن يحافظ على علاقاته الشخصية مع من ينشرون أعماله، وأن يحاول على الدوام إيجاد آخرين جدد لفتح منافذ هنا وهناك.. ينشيء له صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ويعمل على زيادة متابعيه ليزداد شهرة ويعرفه الجميع، ويطرب لعبارات المديح وعدد اللايكات، ويراقب التعليقات ليتعرف على رد فعل القراء وما يعجبهم وما لا يعجبهم.
تستدرجه الشهرة وتستمر في إغوائه، وأثناء مسيره يواجه من لا يعجبهم ما يقول، من يهاجمون آراءه، من يشككون في سلامة منطقه وحسن نواياه، من يرشقونه بالاتهامات، ومن يطلبون منه أن يقول ما لا يتفق مع أفكاره من الناشرين، من يتدخلون حتى في منشوراته على الفيس بوك وربما في حياته الشخصية، من يلومون جرأته في الرأي من ذويه، من يكفرونه.. من يخونوه.. من يسبونه.. من ومن ومن.
فينكمش ويتراجع، حتى لا يقل عدد متابعيه، حتى يحافظ على علاقاته المهنية، حتى لا يخسر الأموال، حتى لا ينحسر وجوده، حتى يتجنب الانتقادات والاتهامات، إلى أن يصبح ترزيا يفصل كتابته حسب الرغبة، تصبح منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي نمطية، يجعل من صفحته مجرد معرض لأعماله ويلبي أذواق المتابعين حتى يزيد عدد الزبائن، يتقن الكتمان ويحترف الدبلوماسية، يتجنب ما يغضب الأغلبية وما تنزعج منه السلطات بأنواعها، يبيع ضميره من أجل البقاء ويتحايل على مبادئه، فتتيه منه الأفكار وتفتر الحماسة، يبتعد عن نفسه، تموت الروح فيه شيئا فشيئا، حتى يصبح بلاستيكيا براقا وباردا، لكنه لا يهتم في سبيل أن يُوضع في الواجهة لينظر إليه الجميع بإعجاب ويزداد سعره ويسمى ذلك نجاح.
ينسى الطفل الذي أراد التمرد على الكبار.. ينسى احتقاره للأغلبية، ينسى أهدافه التي كتبها، ينسى وعوده للمظلومين ورجاءه من الله بالتوفيق، ينسى دافعه الأول للكتابة، ليصبح أسير تلك الشهرة، ويدخل نفسه في قفص، قضبانه الأضواء.. أضواء تعميه عن ماهية الكاتب الحقيقي وشرف الموهبة، ويسير مع باقي قطيع الخونة على طريق دفنوا تحته شجاعة الرأي، ويحاولون السير فوقه بعنجهية رغم تلفتهم الكثير، ذلك لأن النشر يكشف معادن الكتاب ويكشف من منهم حقيقي ومن منهم بلاستيك.. ذلك الذي لا يعدو كونه أجيرا يغزل الحروف أثوابا للكبار.