(1) \”يارب سامح\”
كتبها أبي على سيارته التي اقتناها في مطلع الثمانينيات، لتظل هذه الجملة فيما بعد مصدر فخر له بين أقرانه، متباهيًا بالتورية التي تفتق عنها ذهنه، والمعنى المزدوج المغلف بطلب السماح الإلهي، والمبطن بدعوة ليرزقه الله ولدًا بهذا الاسم يشد به أزره. لم يكن يعلم أنه بعد انقضاء ثلاثة عقود ونصف، سيكون لها معنى ثالث، يرجو به السماح والغفران لولده ذاك، الذي ظل هذا الاسم مفضلًا لديه على اسمه الحقيقي، حتى اصطفاه الله من بيننا ليسكن لديه برزخًا لا يعلم كنهه إلاه.
(2) \”أسى مهمش\”
ترى \”إليزابيث ديفيتا رايبورن\” الصحافية وصاحبة كتاب: \”الغرفة الخاوية: إدراك فقدان الأشقاء\” أن هذا النوع من الفقد والألم المصاحب له، لم يلقيا القدر المناسب من الاهتمام والتحليل حتى لدى علماء النفس، الذين يرى كبيرهم \”فرويد\” أن الأخوة مجرد منافسين.
تقول \”رايبورن\” أن حزن الأخوة قد ظلل عليه حزن الآباء، أو الأزواج والأبناء في حال فقدان أخ أكبر، ليتراجع الأخوة في خلفية المشهد. حتى إن مواساة الآخرين لهم لا تخرج عن فئة \”لابد أنه كان أمرًا مفجعًا لوالديكما\”. رغم أنها خلصت في كتابها -الذي جمعت فيه روايات للعديد من فاقدي الأخوة- إلى أن آثار هذا الفقد تعيد ترتيب القطع المكونة لشخصية الأشقاء، وتحدد لهم السمت الذي سيتبعونه للأبد، ذلك لاستثنائية الرابطة التي تتولد بين الأخوة.
(3)\”رائحة المسك\”
يأتي الموت كزائر ثقيل، نعرفه جيدًا، لكننا لا نرحب به، ولا نقو على بغضه، يقترب من دوائرنا شيئًا فشيئًا، حتى يدخل ديارنا، فإذا هو بها، يفرض علينا تقديم أحد أحبابنا كضريبة إجبارية لا مناص منها، ثم تتضاعف الضريبة، فيتزايد الفقد، وتستطيل الأذرع المتشبثة بمن رحلوا حتى تتهدل وتخور قواها فتسقط تمامًا. يصفعنا الموت صفعة تخلد آثارها على كامل كياننا أبد الدهر، يسلبنا غطاء أماننا الذي نتدثر به، ويمنحنا عوضًا عنه قلبا هشا مثقوبا لأقصاه، يتردد داخله صدى خلخلة وصراخ مكتوم تتألف موجاته الصوتية من خوف وجزع وحسرة والتياع. يغير ارتباطات الأشياء لدينا، كرائحة المسك التي صارت مرتبطة لدي بالكفن الأبيض والجسد البارد. يورثنا شعورًا بالذنب يلازمنا مع كل انفراجة للشفاة، وكل ضحكة توشك على الانطلاق، مع كل لقمة تجد طريقها سائغًا دون غصة تعارضها في الحلق، مع كل تجمُّع لن يدركه الغائب. ومع كل مرة ندير فيها ظهورنا عن قبره.
(4) \”المراحل الخمس لابتلاع الغصة\”
الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، ثم التقبل، خمس مراحل للأسى أرستها الطبيبة النفسية سويسرية المنشأ \”إليزابيث كوبلر روس\” في كتابها \”عن الموت والاحتضار\”، خمسة مراحل تتأرجح على منحنى يحمله خط الزمن المستقيم، استلهمتها من تعاملها مع المرضى الميئوس من شفائهم، لا يشترط فيها التعاقب، فلكل ظروفه وخبراته التي قد تجعل أحدهم يدمج بعضها معًا، أو يمر بكل مرحلة أكثر من مرة.
لم أصل بعد للمرحلة الأخيرة، ركنت طويلًا بالثانية، ناقمة على القدر، ثم عدت للأولى مستنكرة وقوع الحدث بسياقه المعروف لدى صانعه، والآن أتأرجح بين الرابعة والخامسة، أحاول الخروج من قاع \”الاكتئاب\” بعد الاستسلام له بكل انزلاقاته كما توصي \”روس\”، ولكني أخشى ذاك \”التقبل\” الأخير، ذاك السلام والركون.
أعي جيدًا أن الشعور بالذنب هو ما يشوهه بعيني ويلوث مذاقه بقلبي، ولكن عقلي يحاول التشبث بالبشرى التي زفتها \”روس\” لمن يمرون بالمراحل جميعها، فبحسب قولها، لن يرى أولئك الذين ستستمر حياتهم العالم كما كان لديهم مسبقًا، ستفقد بعض الأشياء معناها لديهم، وستزداد أشياء أخرى -لم تكن لتخطر ببالهم- أهمية، لا يعني هذا أنهم سيتجاوزون فقد أحبتهم، بل سيدورون حول محور رحيلهم، ولكنهم سيولدون من جديد، وسيتعلمون التعايش مع الخسارة، لن يعودوا كما كانوا من قبل، وليس عليهم أن يتمنوا ذلك.
(5) \”يسقيكي من الحوض البارد\”
في خضم صدمتنا وعظيم ألمنا، وتساؤلي الداخلي عما سأجيب به كل من يسألني عن عدد أخوتي، لم تمر تلك الجملة على آذاننا مرور الكرام حين سمعتها وإخوتي من المُعزِّيين، داعين بها لأمي التي عصف الحزن بكل قلبها وجُلُّ جسدها وجزء من عقلها، تساءلنا فيما بيننا عما يقصدون، ما هذا الحوض؟ هل يقصدون حوض النبي؟ أم أنها كناية عن دعوة بأن يثلج الله قلبها؟!
لم أكن في حال تسمح بالبحث والتأكد، فاكتفيت بالانجراف مع تيار الأفكار والتخيلات والتساؤلات؛ التساؤل عن سبب اختيارهم لـ\”يسقيكي\” رغم أن ما يحتاج البرودة هو قلبها لا حلقها، ثم تخيل تلك البرودة الربانية القادرة وحدها على تسكين هذا القلب الملتهب، فالإدراك الأول لمعنى جملة \”ابن/بنت قلبي\” التي اعتادت أمي تذييل دعائها لنا –أو علينا في ساعات غضبها- بها، وليست \”ابن بطني\” كما كان دارجًا، ذلك قبل أن تتحول الأولى إلى جملة مبتذلة دارجة بين المحبين المبتذلين، والساخرين منهم.
(6)\”في الجنة، بيتفسح عند ربنا\”
كان هذا ما لقنَّاه للأطفال، وَدَعَتْ به قلوبنا، وأمَّنَت عليه شفاهنا، حين سألونا عنه وحين نعود بعد كل زيارة بدونه، أما زيارته فهي ناقصة الأركان، بها زَائرٌ دون مَزُوْر يرحب بنا ويستقبلنا ويتسامر معنا، ثم يأذن لنا بالرحيل فيودعنا إلى أن يرد لنا الزيارة. أو ربما قد فعل ذلك دون أن ندري، فقد صرنا الآن قومين مختلفين، نحن قوم نعمل ولا نعلم، وهو يعلم ولا يقوى على العمل. هو المَزُوْر الذي يباهي بنا أقرانه الجدد ونحن الزائرين الذين صارت جُلُّ أمانيهم أن يكتمل الركن الأخير للزيارة، وتتبدل الأدوار، فيصير لاوعينا هو المزور المهيأ دوماً لاستقباله.
(7) \”تفرق في الوداع؟!\”
366 يومًا مرت منذ حملت أخي جسدًا خاويًا دون روح غبطت فيها كل شيء مسته يده، واحتفظ برائحته حتى الآن، 360 يومًا مرت منذ آخر لقاء بيننا، لا أظن أن إدراكي بأنه الأخير كان سيغير من طبيعته -التي كانت غريبة بالفعل من فرط لطفها والضحك الذي ملأها – بيننا، بل أعي جيدًا أنه كان سيزيد من صعوبة الأمر لدي.
أتعجب ممن يقومون بفعل \”الوداع\” الذي يعني الانتهاء، الفصل القابل لاحتمالية التجديد الذي يبدو أمرًا جيدًا في ظاهره، ولكنه ذي جوهر متغير لم أكن لأتمناه في علاقتي بأخي.
لم أودعه سوى بقبلة طبعتها على جبينه البارد حينها، ونظرة طويلة ملأت خلالها كل خلايا بصري وروحي وذاكرتي بملامحه، خشية أن تخونني يومًا وينسيني الغياب إياها، فلم أكن أدرك لحظتها أنه أمر ينازع العنقاء على مرتبتها ضمن المستحيلات الثلاثة، لأنه ترك لنا كل ملامح طفولته ومراهقته وشبابه، مقسمة بكل التساوي والجمال على وجوه بناته الأربع.
قر عينًا يا أخي، وباه بنا أقرانك.. سنُبقي على هالتك مضيئة بدعائنا حتى تتحقق \”فسحتك\” بالجنة كما أبلغنا أطفالك، وحتى يتحول اسمك إلى صيغة \”اسم المفعول\” ويجعل الله لك منه كل النصيب.