سميرة حمزة تكتب: عن حياكة "الصبر" بشغف "الصوف"

تقول  \”إيزابيل الليندي\”، إنها بدأت الكتابة في وقت تتجه فيه النساء التشيليات عادة إلى حياكة الجوارب لأحفادهن، هكذا قامت الكاتبة \”الواقعية\” بتنميط الأمر والربط بين الحياكة والعجز والفراغ، وكأن النساء حين يتقدم العمر  بهن، يلجأن إلى بث روحهن في نسيج صوفي يحوي ضفائر تروي ألوانها بعد مماتهن بهجة شبابهن الضائع.

فليكن، ومن منا لا يفعل؟!

هكذا إذن بدأت \”الليندي\” الكتابة في خريف عمرها، وبدأت أنا حياكة \”الكروشيه \” في مقتبل عمري، قد يبدو الأمر مثيرا للسخرية، لكنه ليس كذلك. ففي كل عقدة أحيكها، تلتوي عقبة أواجهها، وأتغلب على خوف وترقُب تملكاني لأكثر من عقدين من عمري، وها أنا ذا، الآن أتحكم بالعُقد لا أتعثر بها، فبينما ترتسم سلسلة الصفوف بين يدي، أختبر شعورا طالما ضقت به ذرعا؛ الترتيب والنظام، فشعور فتاة فوضوية وهي تنظم صفا عنقوديا من خيط غليظ ثم تكرره، أشبه بشعور صغير يرمي الحصى في ماء النهر كي يصنع دوائر متناثرة لا نهاية لها، اصطدم بغتة بسنارة حكيم تعرف وجهتها جيدا، ورغم ذلك، فحياكتي أيضا فوضوية، حين أبدأ لا ابتغي تصميما بعينه، فقط أُطلق يداي في خيطي و سنارتي -هكذا تُسمى الإبرة في قاموس المحترفات العربيات- ليصنعا بها وبي ما شاءا من أشكال.

تتسلل السنارة بنعومة بين ثنايا عناقيد الخيط، تشتد عليها تارة، ثم ترخيها لتصير الخيوط طيعة بين حافتها المعقوفة وقامتها الممشوقة، كأصابع أم تبدع في صنع جدائل طفلتها تشتد عليها لتقومها، ثم ترخيها حتى لا تؤلمها.

حين انتهي من الحياكة، لا أضع الخيط والسنارة منفصلين، فالتناغم الذي يعملان به يجبرني أن أتنحى دون أن أفصلهما، حين تخذلني أوتار يدي عن الاستمرار. لا تسمح لي سنارتي بإسقاط وَهَني عليها، وهي التي تتولى زمام الأمور دوما، فهي التي تهرع لسحب الخيط إذا انفلت من يدي، وهي التي تنهل منه ما استطاعت دون أن يأبى، وهي التي تقاوم للولوج إذا ضاقت العقدة عليها، كمن لا يقبل بأقل مما يستحق.

تغريني سنارتي وتلهمني، ويثير تكوينها في مخيلتي صورة المعلم الذي يلهمك دون تلقين، يهديك إلى حلمك، ويرشدك إلى ما تصبو إليه وتخشاه، بإغرائك واجترارك إلى تحديه.

وقت الحياكة أصمت بكل إجلال وأتابع ما يُصنع بيداي، كــ \”درويش\” يمارس بخشوع دورته الصوفية، يبعث بطاقته للكون ويستقبل طاقة أخرى ذات كنه مغاير، في حالتي أرسل طاقات متباينة، كالشغف أو الغضب، واستقبل طاقتي الصبر والجمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top