عزيزتي، أكتب لكِ الآن من هنا، هنا الذي لم أشعر بالانتماء إليه قط، أكتب لك وأنا مرهقة أو لأني مرهقة، ومرهِقة كي أكون منصفة، وكلي يقين أن تجاعيد الروح ترهقك أكثر من تجاعيد البشرة، تجاعيد الروح تنبهك بأن العمر قد سبقك ومر مخلًا بكل عهود البقاء والقوة معك.
أكتب لك مفتقدة لا مبالاة لازمتني طويلًا، طالما أخبرتك أن الناس هنا مجرد رفاق وقت، نمرر الوقت سويًا، دون حاجةٍ إلى تنظير، وعود، نصائح أو أي كلامٍ فارغٍ وأن أعتزالهم الحل الأمثل بالنسبة لي.
ربما نحتاج إلى حضن صادق يقول الكثير نيابةً عنا. من أناسٍ لم تزدهم الحياة إلا ترفعًا عنها.
أخبرتك أن الناس يظهروا ما يودون فقط، وأن العشرة ليست كافية للتعرف عليهم. الناس مُرهقين.
حتى في فهمهم لأنفسهم، المواقف التي تتقابل فيها الشعارات مع العُرف تعريهم وتعرفهم أنفسهم قبل أن يكون لك
لطالما حدثني صديق لى عن الحرية. في الوقت الذي كان يرى كل من يخالفه في أكلته المفضلة فاسق وغبي
أخبرتيني كم أنتي وحيدة. إننا دائمًا وحدنا. ففي النهاية ينفض كل الجمع وتبقين وأرقك على وسادتك بلا ونيس. وقتها شعرت أن ما بيننا تعدى كونه صداقة ليصل إلى تلاقي أرواح أرهقها تناقضها.
حدثتك كثيرًا عن قليلي الحيلة وكيف يثير اشمئزازي إلقائهم بكل اللوم على
النصيب والمقَدر والمكتوب، فحدثتيني عن الضمير واحتلال مبررات
مكانه لا تشفع انعدامه أبدًا.
لم نكن نتحدث كثيرًا عن الله بقدر ما كنا نراه. وبقدر ما كان يرسل لنا إشاراتٍ في وقتها تحديدًا.
أحاول بكل جهدى أن أضع أي توقعات لعقدي القادم ولكنني أفشل. التوقعات بقدر ما هي أوقات كثيرة مخيبةً للآمال لكنها مريحة للبال.
تحدثنا عن الحب. الحب الذي يجعلك ترين في وسط كل هذا الظلام. نور، وسط كل هذا اليأس يأتيك صوت
فيروز بطهره ليقول لك: \”إيه في أمل\”. فيضاف إلى مشاعرك ونس وسكن ورحمة لتشعر أنك أقوى، أقوى بكثير. الحب الذي يجعلني أغفر للعالم كل ما اقترفه في حقي من ذنوب
ومعاصٍ لوجودك به.
وجودك الذي يطيب خاطري ويطمئنني بأن العمر لم يمر هدرًا.
تستوعب تناقضي وتفهمني بقدر عدم فهمي لنفسي.
أكتب لكِ وقلبي تملؤه غربة، غربة من لا يعرف لقلبه وطنا. أنا التي لم تغادر أرض هذه البلد أبدًا.
أكتب لكِ وأنا أتمنى السقوط. سقوط من يريد البدء من جديد. سقوط من استنفذ كل طاقته ويريد فرصة فقط لالتقاط أنفاسه.
أكتب لك وأنا أتمنى الطيران. ربما خارج حدود هذا البلد وخارج حدود روحي التي طالما أرهقتني.
أكتب لكِ وأنا حتى بعد هذه السنين لا أعرف الذي أريده. ربما علمت ما أرفضه وأكرهه وأتجنبه، ولكن تحديدًا ما أريده صعب. بدرجةٍ كنت أجهلها.
أكتب لكِ وعقلي رافض أن يستوعب أن هذا كله حقيقى.
أكتب لكِ وافتقادي للكثير يضيع علي أي متعة حاضرة.
أكتب لكِ وفي ذهني شارعنا القديم، لعبي وأصحاب الطفولة -من اختفوا- والدنيا الصغيرة لم تجمعنا ثانيةً، الإسكندرية وسوق المعمورة ولعب البحر، جدتي من علمتني كيف أصلي وجدي من حببني في الحلوى. وافتقادي لي أنا، الذي يفقدني كل شيء.
أكتب لكِ وكلي يقين. أن الانتظار يزيد المسافات، وأن العمر قصير، قصير لدرجة أن تستيقظ يومًا وقد بلغت من العمر أرذله ولم تدر بعد ما تريده
قصير لأن يمر وأنت تطلب \”سلامتك\” فقط سلامة روحك من كل جرح عالق.
أكتب لكِ وأنا ابحث عن مهرب صامت. أنا التي لم تسمع صوت الصمت أبدًا. ربما سئمت كل حروف اللغة وربما زهدتها أو لجل الإنصاف يأس يتزهد كي يكون أكثر قوة.
أكتب لكِ وأنا أعلم أن الله هنا. يرى ويسمع، وأعلم أن الله أقرب، من كل شيء ومن الجميع، والله أبقى ويذهب الجميع، يذهب الجميع وتبقين إنتِ بعشوائيتك المحببة، بضجيجك المرتب، بهدوئك التام
بنفسك الراضية.
أكتب لكِ وأنا دائمًا أشعر أن هداياك يا الله ومنحك أكثر بكثيرٍ مما أستحق
وأن رحمتك واسعة، بالدرجة التي تغمرنا، نحن من نقسو ونستحل حُرمة القلوب.
أكتب بينما الوقت يمر، لأتفاجأ بأن السنين قد مرت وبأن العمر قد مر وأنت تحاول أن تجد طريقًا لسعادتك.
أكتب لك وكلي مشاعر متناقضة وأفكار أكثر تناقضًا، ربما تجعل مني شخصًا أقوى، شخصًا لم يدع إلا التفكير فأردد دائمًا: اللهم لا تجعلنا من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
أكتب لكِ والطريق قد طال، وأنا انتظر، بينما أدعي عدم الانتظار.
ما أردت إخبارك به هو إلحادي بكل ما يفقدني نفسي وسط كل هذا الزيف، لعلي أقابل الله وأنا ممن رضوا عنه ورضي عني.
أكتب لك فقط لأنني كنت أحتاج إلى ونس.