سمر طاهر تكتب: مدينة المسدسات!

استيقظ من نومي وأمد يدي تلقائيا لألقي عليه نظرة قبل بدء اليوم.

أسود غطيس مقطوع النَفَس.. ما هذا الحظ؟
يوم جديد مثل اليوم السابق.

يوميًا أنظر إليه بعدم اكتراث، ولسان حالي يقول: \”إمتى يا شيخ تروح في داهية وأرتاح من زنّك في وداني؟\”

أرى في وجهه أشخاصا حاولوا الوصول إليّ أثناء نومي.

أتفقد مواعيد اليوم، نظرة عابرة على البريد الإلكتروني، ولا مانع من المرور على الفيس بوك.

ينتهي الأمر بأن ألقيه بغير اكتراث بعد فتح \”الجرس\”.

علاقتنا معقدة، بها الكثير من الحب والكراهية، لكن لا أنكر أنه كدفتر الحضور والانصراف الذي يجب أن أوقّع عليه قبل النوم، وبعد الاستيقاظ أعلن به للعالم أنني انتقلت من عالم الموت المؤقت إلى عالم اليقظة.

هو التقرير اليومي الذي يجب الاطلاع عليه قبل بدء الأعمال!

نصف ساعة مرت وأنا \”مش على بعضي\”.

أتفقده مجددًا لأجده \”ميتًا\” كما يقولون.

لم يقع مني أمس، وكان في \”الشحن\” حتى آخر لحظة.

ربما تعب من كثرة التطبيقات التي استخدمها.. هذه وجهة نظر صحيحة بالتأكيد رغم سذاجتها الظاهرية.

كنت أرفض استخدامه كأجندة أو كجهاز كمبيوتر، رغم أنه مصمم لهذا الغرض، طالما فضّلت استخدامه للغرض الأساسي الذي صُنع له: تليفون للضرورة عندما لا نكون بالمنزل!
لكن ما باليد حيلة.. الأشياء تتطور ونتطور معها رغمًا عنا، ولا نستطيع مقاومة إغراء التقدم وما يمنحه لنا من آفاق.

وها هي نبوءتي تتحقق.

الموبايل باظ، لأنه لم يتحمل كل هذه الأشياء.

\”البرامج كانت تقيلة عليه كما يقولون\”!

هو التفسير الوحيد رغم شعوري أنني أميل في هذا الرأي لأن أكون \”ربة بيت ساذجة\”.
يمر الوقت وأنشغل بالمعتاد من الأعمال وأنسى، لكن شيئا ما ينقصني، وكعادتي أراجع أحداث اليوم لمعرفة ما قد يكون سببا في اكتئابي ولو بغير وعي.

لا يوجد اليوم غير موضوع الموبايل!

أنا غير مضبوطة منذ الصباح، كأنني لم أشرب القهوة بعد.

هل الاطلاع عليه في الصباح كشرب الكافيين، يمنحني القوة المطلوبة كل يوم، حتى وإن كانت مجرد قوة إيحائية؟
قنبلة موقوتة تهدد الصحة والوقت والمال، وطالما تمنيت العيش بدون ملاحقة الآخرين التي يتسبب فيها، أو العودة لسنوات ما قبل الموبايل.

كيف أصبح لهذا اللعين كل هذه الأهمية؟! كأننا لم نكن نحيا قبل أن يصل إلينا هذا الشيء المعدني الصغير العجيب!

ماذا سأفعل بدونه؟ سأقوم بإصلاحه، يوم ويعود كما كان، لكن يوما واحدا وقت طويل.. جدًا.

كلما مرت الدقائق، أتذكر شيئًا جديدًا سأفوّته بعدم اعتمادي عليه.

كيف سأعرف أن الأولاد قد وصلوا وعليٌ استلامهم بدون أن أسمع \”رنّة\” مشرفة الأتوبيس؟
كيف سأؤكد حجز الطبيب، وأرقامه وموعد الكشف مُسجلين عليه، وليسوا في ذاكرتي للأسف! حتى ذاكرتي تكاسلت وارتكنت إلى الاعتماد على هذا اللعين؟

عندي \”١٤٠ دليل\”، ووسائل أعوض بها غيابه، لكن يلزمني بذل بعض المجهود وأنا على غير استعداد.
الفيس بوك! نسيته وياللمصيبة، كيف أتابعه وأنا خارج المنزل، وكيف سأتأكد أن أحدًا لا أعرفه قد كتب تعليقًا سخيفًا على حائطي أو شتمني دون سبب كما حدث منذ عدة أعوام؟!

احتمال ضعيف يحدث كل سنة مرة، لكنه قد يحدث اليوم.
لا شيء يغطيني، إلى هذا الحد أصبحت اعتمادية، وعالمي \”هشا\”، لا ورقة مدون عليها أرقام، ولا أي شيء ملموس.. كل شيء افتراضي ويضيع في لحظة.

لم يكن من المفترض أن أعتمد على التكنولوجيا الغبية، فبقدر الجهد المبذول فيها، بقدر غدرها وعدم إمكانية الوثوق بها.
أكلم أمي من (الأرضي) لأشاركها أفكاري، أعرف ردها: \”مش قلت لك خللي معاكي نوتة بكل الأرقام؟ صعبة دي؟\”
لن أتكلم.. تبًا للتكنولوجيا.. المتغطي بها فعلًا عريان.. العجائز لهن وجهة نظر صحيحة أحيانًا.
أتخيل أن أحد أجداد أجدادي عاد ليعيش معي يومًا واحدًا.. هل سيصدق حجم المخاطرة التي تحياها حفيدته؟
راق لي هذا الخاطر الذي شغلني قليلأً عن مآساتي: أن أصبح بطلة خارقة في نظر هذا الجد المسكين.. بيوتنا ممتلئة بالأجهزة الكهربائية.. ماس صغير وتكون الكارثة –الشر بره وبعيد اللهم عافنا– ومع ذلك نعيش المخاطرة اختياريًا أو إجباريًا.

البنايات الشاهقة والذي لا يتردد أحدهم أن يجعل مقر سكنه فيها، مُدركًا أنه سيركب \”الكهرباء\” طلوعًا ونزولًا مرات ومرات.

السيارة التي تقودها بسرعة 120 كم في الساعة وسط العشرات من السيارات.. ألن يحدث خطأ بشري واحد؟ لماذا إذن لا تأخذ حذرك؟

لا مجال للحذر، وإلا فاخرج من دائرة الحياة العصرية، أو اقبلها وعش على صفيح ساخن جدًا.

إنها المدنيّة الحديثة، بل هي حياة الإنسان منذ الأزل وقبل الكهرباء والذرة واختراع الطائرات! فاكتشاف النار كان حدثًا فارقًا في تاريخ التطور البشري رغم فداحة ما تشكّله من خطر على الإنسان.

تاريخ الحضارة هو رحلة الاكتشاف والمخاطرة، وحيث لا توجد مخاطرة، لا يوجد تطور، ولا توجد متعة.

وفي أبسط الأشياء تكمن المخاطرة، فالمشروبات الساخنة تستلزم لصنعها تسخين الماء لمائة درجة مئوية.. ما أعجبك أيها الإنسان!

وحتى نزول السلم العادي به نسبة من المخاطرة!

لا أحد يستطيع أن يوقف \”عجلة\” التطور، لكن هل نحن في \”حاجة\” بالفعل لكل هذه المستجدات؟

شبكات التواصل الاجتماعي جعلت الآخرين عند أطراف أصابعك، وإن كانوا في الطرف الأدنى من الأرض.

دائرة واسعة من الاتصالات، لكن ماذا عن العلاقات؟ سطحية وعابرة وخادعة أحيانًا.

زاد الاتصال وقل التواصل.. زادت القدرة على الوصول للمعلومات، وقلت القدرة على تحليلها للأسف.

هل كنا في حاجة لكل ذلك؟

هل الحاجة أُم الاختراع فعلًا، أو العكس هو الصحيح؟

دارت بذهني قصة \”مجتمع المسدسات\” التي نقلها المفكر الكبير د. جلال أمين عن كتاب لأحد أساتذة الاقتصاد في جامعة لندن، حيث ترجمها وقدمها في مجلة الأهرام الاقتصادي في الثمانينيات، ثم في كتابه \”رحيق العمر\” بعد أكثر من عشرين عامًا.
تلخص القصة حال دولة خيالية يتمتع المواطن فيها بحرية حمل السلاح دون ترخيص، فتزدهر تجارة المسدسات، وبالتالي تزدهر كل الصناعات المرتبطة بلوازم حمل السلاح وصيانته، وبالتالي صناعة الزجاج المضاد للرصاص للمنازل والسيارات، وكذا أعمال شركات التأمين ومصانع الأدوية المهدئة!

فالرواج الاقتصادي قد حدث بالفعل على كل الأصعدة، وساد منطق السوق والعرض والطلب، مما أدى لانتعاش يمكن اعتباره نوعا من النمو الاقتصادي الظاهري.

إلا أن ذلك لم يُثمر منفعة حقيقية للمجتمع في هذا الطرح الذي يرفض فكرة النمو الاقتصادي كهدف في حد ذاته يجب السعي إليه، حيث يرمز الهوس بالمسدسات في القصة إلى الهوس بتكاثر السلع والخدمات في حياة الإنسان.

هل الحاجة أُم الاختراع؟

هل الاحتياجات البشرية هي التي تدفع الإنسان للاختراع، أم أن طيش الإنسان ونزقه ورعونته الجميلة تدفعه للسعي نحو مجتمع الرفاهية بخلق حاجات غير موجودة أصلًا، ثم اختراع أشياء لتلبية هذه الاحتياجات المصنوعة صُنعًا؟
أتذكر مآساتي أنا، وأنظر إلى الكائن المعدني الأصم.. لم يتأثر بقصة مجتمع المسدسات.. مازال كما هو.. أسود غطيس مقطوع النَفَس.. ميت كما يقولون!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top