سمر طاهر تكتب: رمضان وديكتاتورية الأغلبية

(1)

تخيل معي شقيقين يعيشان في منزل واحد، الأكبر بدأ والداه يشجعانه على الصيام حتى آذان المغرب، ومن أجل تشجيعه فإنهما يعودانه على السحور وشرب المياه بكثرة قبل الفجر، ينصحه والده بالتقليل من نشاطه البدني خلال اليوم، والراحة إذا ما شعر بالتعب، وطبعا قبل كل شيء \”قد\” ينصحه بأن يتذكر خالقه بالصلاة والذكر أو التأمل الذي يوصله للحالة الروحانية التي من أجلها فُرض الصيام على المسلمين.. وأمم سابقة أيضا.

وإمعانا في التيسير على الابن، لا ينسى الأب أن يحذر الأخ الأصغر.. \”لا تأكل أبداً أمام شقيقك كي لا تصعب المهمة عليه.. تناولك لطعامك أمامه ذنب كبير ستعاقب عليه فورا داخل البيت وفي الآخرة طبعا أيضا\”.

ربما لو كانت النصيحة قد تمت بود ورفق، أو لم تتم أصلا، ربما لم يكن الشقيق الأصغر ليفكر في \”غيظ\” شقيقه أو استفزازه من الأساس.. ولم يكن الأخ الأكبر ليصبح شديد الحساسية والقابلية للانفجار أمام أي تصرف يصدر من أخيه، وحتى إن كان بريئا وبدون نية الأذية، فقد نسي الأب أن الطعام كله موجود في المطيخ ويملأ الثلاجة، ولن يفرق مع الأخ الأكبر رؤية الطعام في المطبخ، أو رؤيته في طبق أخيه الصغير الذي لم يُفرض عليه الصوم.. الأكل كده كده موجود.. ماتستهبلوش.

(2)

مما يلفت الأنظار في السنوات الأخيرة أن بعض المطاعم والمقاهي بدأت تفتح أبوابها للزبائن في نهار رمضان، واستنكر الكثيرون ذلك على أساس أن المجاهرة بالإفطار أمر جلل، والأهم هو \”الاستفزاز\” الذي يسببه ذلك للصائمين! وكأننا نعيش في مدينة من عشرة أفراد كلهم من المسلمين المؤمنين الملتزمين بالفريضة، والأصحاء ومن غير ذوي الأعذار.. وهو أمر مستحيل تحقيقه إن وجدت فعلا مدينة لا يوجد بها سوى هؤلاء العشرة!

وعلى كل حال، فالمقاهي الشعبية قد اعتادت منذ سنوات طويلة وبلا خجل، أن تفتح أبوابها للـ\”زباين\”، الذين يدخنون ويشربون الشاي نهارا جهارا.. من يريد شيئا فليفعله بدون تنظير.

هل أدعو هنا للمجاهرة بالإفطار في نهار رمضان؟ هل أشجع على الوقوف في الطرقات والتلويح بالطعام أمام المارة من الصائمين كما فعل البعض ومن ثم تم القبض عليهم وفقا للرواية التي سمعناها؟ ربما بتهمة \”استفزاز صائم\”.

(3)

أتذكر – كما ستتذكر معي النساء على وجه الخصوص – مواقف من الجامعة والعمل، حيث الفتيات المفطرات بسبب عذر شرعي يتمنين شرب كوب من الشاي الساخن أو حتى الماء، لكنهن لا يستطعن فعل ذلك وكأنها كبيرة من الكبائر، أو ربما قد تفعل الفتاة ذلك لكن في مكان سري متسترة بشدة وبحذر كأنها تخشى من افتضاح أمرها! نفس الحال مع الأسف يحدث داخل البيوت، خصوصا في وجود أشقاء من الذكور.. لماذا نحن خائفون إلى هذه الدرجة؟ لماذا من الصعب الخروج على ما اعتادته \”الأغلبية\” حتى لو كان ذلك عن وجه حق؟!

(4)

صفة \”الغل\”.. وآه من الغل الذي يؤذي صاحبه عافاكم الله.. الغل حالة أصبحت موجودة في الشارع بطريقة لا يمكن إنكارها، هذه الآفة التي صنعتها ثقافة الزحام والفقر وغياب العدالة، طبعا مع الخطاب الديني المغلوط الذي يتسبب في المزيد من التجهيل، ومواطن يعيش في مثل هذه الأجواء هو معذور إذا ما امتلأ من داخله بالغل والكره تجاه كل البشر، هو يقوم بالعبادة ولا يعرف لماذا، هو لا يعرف نفسه أصلا ولا يفهمها، هو غير متحقق بكل أسف.. ربما تتحول عباداته لعادات اجتماعية ويتحول الخوف من الآخر عنده إلى موضوع أهم من الخوف من الله نفسه.

الشاب الذي لا يستطيع الزواج قد يكره كل النساء، والشاب الذي لا يجد فرصة لتحقيق ذاته قد يتحول لناقم على أي نموذج ناجح أمامه. والشخص المحروم من الطعام مع كل الكبت الذي يعانيه في مجتمع كهذا يصبح سريع الغضب أمام أي فعل يثير أعصابه في ساعات الصيام!

المواطن المصري على آخره \”وروحه في مناخيره\”، وهذا حقه بكل صراحة. والمشكلة أن الشخص العادي \”الصائم\” إذا ما رأى شخصا آخر مفطرا بدون سبب، فإنه غالبا سيستشيط غضبا، ليس لأنه يريد مصلحة الآخر في الدنيا والآخرة ولا خوفا على ضياع الدين، رغم أنه قد يقنع نفسه بذلك لأنها حجة أنيقة ومقبولة جدا، لكن السبب الحقيقي الخفي يكون عادة هو \”اشمعنى هو ياكل وأنا لأ؟!\” ، وهو ما يتنافى أصلا مع فكرة الإيمان والتسليم الذي يجعل الإنسان المؤمن يؤدي فروضه بإرادته لسبب أسمى من النفع الدنيوي.

أظن لو أجرينا دراسة على حالة الشارع المصري في نهار رمضان، سنجد أن معدلات الغضب والانفعال أعلى من باقي أيام السنة، رغم أنه من المفترض حدوث العكس. الحقيقة أن الغضب موجود طوال العام، لكن رمضان فرصة فقط لإيجاد حجة تقنع الآخرين بأحقيتي كمواطن في الغضب!

(5)

البعض يرى أنه لا مانع من وجود مطاعم تقدم وجباتها في نهار رمضان طالما الأمر مقتصر على السائحين الأجانب.. قال يعني خايفين على السياحة!

لكن يشدد أصحاب هذا الرأي على أن السماح يجب أن يكون للسائحين الأجانب.. الأجانب \”فقط لا غير\”.. يعني المفترض أن نطالب السائح في حالة أن شعره أكرت وعينيه سوداء أن يرينا جواز سفره؟

يذكرني هذا المبدأ بفكرة \”صالات القمار\” في بعض الفنادق الكبرى، فالمصري لا يدخلها بحكم القانون، نعم نحن نحمي المصري من نفسه الأمارة بالسوء، لكن الأجنبي يستحق سرقة ونهب أمواله، أو ربما هو ناضج ولا يحتاج لوصاية، أو يمكن إذا أغلقنا هذه الصالات أمام الأجانب فلن يقبل السائحون على القدوم لمصر.. على أساس أن مصر هي لاس فيجاس الشرق التي يتهافت عليها الجميع من شتى بقاع الأرض وليس بها أية مشاكل أخرى تنفر السائح المسكين.

(6)

تخيل نفسك وقد سافرت لدولة أجنبية للعمل أو للسياحة ووجدت أن المطاعم لا تقدم سوى الطعام النباتي للجميع ولا خيار آخر أمامك.. كيف ستشعر وقتها؟

وهنروح بعيد ليه؟ تخيل أن المجتمع المصري كان ذا أغلبية مسيحية، وعليك أنت كمسلم طوال فترة صيامهم أن تأكل طعاما \”صيامي\” طالما أنت خارج بيتك، أولا كي لا يقال إنك مستفز لمشاعر الأغلبية، وثانيا لأنك لن تجد أي مطعم أو مقهى يقدم ما دون ذلك من الوجبات.. ماذا سيكون شعورك وقتها.. بصراحة؟ سؤال مهم أن نطرحه على نفسنا.

(7)

أنا عن نفسي وبصراحة شديدة لا أحب رؤيه الطعام وأنا ممنوعة منه، ورغم إيماني أن الله وحده هو الذي سيثيبني عن تعبي أثناء الصيام، إلا أن صيامي لرمضان فعلا سيكون أيسر إذا كان كل من حولي صائما، شيء بديهي وإنساني جدا.. عدم وجود الطعام أمامي سييسر علي المهمة بكل تأكيد.

وما أجمل أن يمتنع الأصدقاء من تلقاء نفسهم عن تناول الحلوى أمام صديق مريض أو حتى يتبع نظاما للتخسيس! من اللطيف مراعاة ظروف الآخرين.. الإنسانية عموماً شيء جميل، ولذلك فما يفعله المسيحيون وبعض الأجانب من الامتناع عن تناول الطعام في الشارع صباحا في رمضان هو أمر جميل بالفعل، الأجمل أن يكون ذلك من باب الاختيار وليس الإجبار، أي كنوع من المشاركة الوجدانية والحب وليس الخوف والتهديد بتهمة \”الاستفزاز وتكدير المزاج\”!

من غير المنطقي لمجرد أنني أمثل الأغلبية أن تصبح أحلام سيادتي أوامر عند غيري، بينما رغباتهم المشروعة لا وزن لها على الإطلاق عندي.. ومن غير المنطقي أن أي فعل عادي من الآخرين يصبح \”شديد الاستفزاز\” بالنسبة لي، إلا لو كنت أنا \”كمواطن\” تعبان ومكبوت جدا جدا ومنتظر أية فرصة لأصب غضبي على الجميع ولأتفه الأسباب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top