(1)
عزيزي \”الله\” هل يرضيك ما يفعله عبادك السائرون في الشارع في سبيل إرضائك؟ وفي شهرك الكريم؟ هل يرضيك؟
أعرف أنه لا يرضيك، ولكنني فقط أشكو حزني وغيظي إليك. ليس لدي حكومة تدافع عني وترعاني وتدفع عني الأذى. ليس لدي ظهر أحتمي اليه. واللي مالوش ضهر أنت تعرف ما يحدث له. أنت تعلم ما أعنيه جيدا. سأشكو لك ما حدث، لكن اسمح لي أولا بمقدمة صغيرة. فأنا أحب المقدمات.
في صغري، كنت أسمع جدتي تتمتم بدلا من الدعاء قائلة: \”أنت عالم بحالي وغني عن سؤالي\”. ربما لن يُعجب الكثيرون بهذه المقولة بحجة أهمية الإلحاح في الدعاء. لكنها عندي أبلغ من ألف دعاء. لو لم تكن العبارة صادقة بما فيه الكفاية، ما كانت لتلتصق بذهن طفلة صغيرة مثلي وقتها.
وقتها لم أكن أعلم ما تقصده جدتي في حديثها عن حالها، يا ترى مما كانت تشكو؟
(2)
سأعود إلى شكوتي الآن. في اليوم الأول من شهرك الكريم ركبت سيارتي متجهة لإفطار عائلي، قدت سيارتي وأنا أحاول أن أتنفس بهدوء كي لا أفقد أعصابي بسبب تفاصيل أكرهها، لكنني أعلم أنني سأراها كل يوم طالما قدر لي العيش في نفس هذه البقعة من البسيطة.
أحاول أن أفكر في أي شيء آخر كي أتحاشى النظر للقبح الذي يحيط بي، أتجاهل المطبات وقبح الأبنية وأتشاغل بحمدك وتسبيحك.
أحاول أن أجدك يا رب لكن عذرا. فالوصول إليك أصعب وأنا في هذا المكان القبيح. عندما أسافر لأوروبا والدول المتقدمة أراك في كل التفاصيل. الجمال والعقول والنظام والعدل. أريد أن أراك بسهولة هنا أيضا في وطني. هل هذا مطلب صعب لهذه الدرجة؟
أعرف أنني لا أدخل مباشرة إلى لب الموضوع ولا أكمل قصتي، لكن طالما تذكرت ما يحيط بي من قبح، فإنني أتذكر فورا شعوري عندما أتنفس تلك الدمامة، أعلم أنك تحب الجمال، أبصم بالعشرة إنك سبحانك تحبه، أولم تخلق سبحانك تلك الأشجار، وتلك البحار وهذا العصفور الصغير!
(3)
إذن، دعنا نتفق أنك جميل وتحب الجمال، عرفت ذلك بتوارث المقولة، وعرفتها بعيني الاثنتين، وبروحي التي تلتقط جمال ضحكة الطفل الذي يضحك بدون مناسبة، ويرقص بدون مناسبة. نعم يرقص!
أوليس الرقص جمالا زرعته أنت داخل روحه فانطلق في الرقص مسرورا بفطرته السليمة التي يلوثها البعض فيما بعد بدعوى حب التجهم والوقار؟
(4)
لماذا يأخذ عبادك فقط القشرة ويستمسكون بها كأنها هي العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
بالتأكيد كل ما يحيط بالدين من مظاهر أيسر في تنفيذه وأحب إلى الناس مما هو \”لُب الدين\”، والذي هو أصعب في اتباعه وأجهد للنفس من غيره.
سأعود إلى شكوتي الآن وعذرا للإطالة! منذ عدة أيام كنت في سيارتي وقت الإفطار. ليفاجئني شاب من محبيك محاولا إيقاف سيارتي عنوة رغبة في نيل بعض الحسنات هو وأصدقائه النبلاء. على حسابي! على حساب أماني وسلامتي الجسدية وصحتي العقلية.
ورغم معرفتي بما يريده، ورغم عدم إيماني أنني لو لم أفطر الآن على هذه التمرة بالذات سيفسد صيامي وأموت جوعا بعد أن أكون ظلمت هذا الشاب بحرمانه من إفطار صائم!
إلا أن نفسي الأمارة بالسوء قد راودتني كي أتوقف لأكلم الشاب أو ربما ألكمه إن أمكن.
وبما أنني قد هدأت من سرعة سيارتي رغما عني استجابة لرعونة هذا الشاب وتجنبا للاصطدام به، فلا مانع من التوقف وإلقاء بعض الكلمات \”المحشورة في زوري\” في وجهه، أمال يعني أموت كمدا؟ أكيد الإيجابية كويسة. هكذا يقولون.
لا تؤاخذني على الاستطراد يارب. فأنا أعلم أنك تعلم ما حدث، لكنني أشرك معي أيضا القراء. ربما تعاطف بعضهم معي وأنا في حاجة ماسة لمشاعر كتلك الآن!
هدأت السرعة لدرجة تقترب من التوقف وفتحت نافذة السيارة وقررت التنافس معه في السلوك الهمجي الذي يحسبه هو خيرا.
رفعت صوتي قائلة \”اللي بتعملوه ده غلط\”. ليس أكثر ولا أقل. لأفاجأ بأصوات عالية متداخلة من الشاب الخلوق ومن معه من الشرفاء وطبعا كانت كلمات الشتيمة والسباب في شخصي الكريم على كل لون يا \”باتيستا\”، لم ألتفت إليهم لأقارعهم الحجة بالحجة وأكمل حالة الإيجابية الجريئة التي بدأتها!
بل فضلت الإسراع بالسيارة والابتعاد عنهم خوفا من هجومهم علي الذي لم أستبعده بالمرة، فلو كنت انتظرت للحظات لم أكن لأنجو من حصار السيارة و\”التخبيط\” عليها بعنف، وهي الحركة التي انتشرت مؤخرا في الشارع المصري كوسيلة للاعتراض على أي شيء يثير غيظ المواطنين الشرفاء.
بداخلي الآن غضب عارم يا رب. أنا الآن أسرع بالسيارة لأهرب من هجومهم علي وأنا أتمالك نفسي من \”الخضة\” التي حدثت لي بسبب صراخهم. الجرأة مش حلوة ولا حاجة.
(5)
ما كنت أفكر فيه عندما فعلت ذلك هو أنه ربما يستمع لي الشاب فأكمل كلامي وأفهمه أنه بذلك يعطل المرور بل ويعرض المارة للخطر من التوقف المفاجئ بسبب إلقاء جسده أمام السيارات. وأنه من الأنانية أن يطمع في ثواب أو حسنة تأتيه عن طريق إطعامي بينما هو يعرضني للموت في نفس ذات اللحظة.
أما ما كان يفكر فيه هو فأعتقد أنه لا يتعدى الطمع في جبال الحسنات التي وعده بها شيوخه، الذين أقنعوه أنك يا ربي تحمل عدّادا للحسنات تزيد به أجر كل من يعمل عملا طمعا في رضائك حتى لو على حساب البشر. وحاشا لك أن ترضى بما يضر عبيدك.
ربما استمع الشاب ومن معه لكلام هؤلاء الشيوخ ونفذوه حرفيا، مع لمسة من العشوائية المصرية الجميلة، لينتج عنه هذا المشهد المرعب الذي لا يرضيك يقينا.
الكثير من الأحاديث تملأ الأسماع. يشجع بعضها على فعل الخير. هذا حديث عن فضل إفطار الصائم. فتكون النتيجة هي، إلقاء النفس أمام السيارات لإجبار قائديها على تناول \”تمرة\”. حتى لو تعرضت الأرواح للخطر.
وذلك حديث عن الذكر. والنتيجة هي، شغل اللسان بكلمات التسبيح بدون تمريرها على القلب ولو للحظة. ظنا أنك يا ربي تحمل عدّادا تحصي به تسبيح اللسان بغض النظر عما يحمله القلب.
وحديث عن غض البصر. والنتيجة هي، النظر لتلك الفتاة الجميلة التي خلقتها أنت يا الله، ثم غض البصر عنها بشكل متعمد يثير الاشمئزاز ويشعرها بالدونية، ونظرة للأرض مصحوبة بنبرة صوت أكثر فجاجة وإيحاء من النظرة نفسها!
وحديث عن العطف على الأيتام. والنتيجة هي، تعمد تمرير اليد على شعر اليتيم ومسح رأسه \”حرفيا\” رغبة في نيل رضاك يا رب. بغض النظر عما يتركه هذا في نفس هذا الصغير الذي يسمع الحديث ويرى المسح على رأسه فيعرف أنه \”يتيم\”!
قل لهم يا رب إنهم \”حافظين مش فاهمين\”. قل لهم إن العبرة بالقلب. قل لهم ألا ينفذون ما يسمعونه حرفيا! ويشغلون هذه العقول التي وهبتها لهم دونا عن كل المخلوقات.
(6)
من أعوام زارت صديقتي المسجد الحرام، وبادرت بالتبرع بالمال لشراء كرسي متحرك ووهبه للمسجد كي يستخدمه غير القادرين على أداء المناسك، توقفت صديقتي للحظة قبل دفع النقود وسألت القائم على التبرعات إذا ما كان فعلا التبرع يتم استخدامه لهذا الغرض. فأجابها شبه زاجرا مؤكدا أن النقود وصلت ليد الله وأن الثواب وصلها بالفعل. فلماذا تسأل الآن؟
أجابته ببساطة أنها تعرف أن الحسنات قد تم احتسابها! لكنها ترغب أن يستفيد \”البشر\” فعلا من النقود التي دفعتها!
لماذا هو صعب يا ربي على البعض الاستيعاب أنه لا تناقض بين إرضائك من وجهة النظر الإيمانية، وبين مساعدة ونفع البشر من وجهة النظر الإنسانية!
أعرف أن الأعمال بالنيات. لكن لماذا لا تكون كذلك بالنتائج؟
وما المانع أن نبحث عن النتائج أيضا قبل أن نلهث وراء نيل حسنات عددية، بدون أن نعقل المعنى وراء الأفعال التي نفعلها بشكل حرفي لا يخلو من الميكانيكية من أجل نيل تلك الحسنات؟