عشت عمري بأكمله في منطقة الدقي حيث ولدت وتزوجت وأنجبت أطفالي، كنت أرى جدتي وهي تقوم بإطعام طيورها من دجاج وحمام وأوز وبط وكتاكيت صغيرة وتحضير وجبة فطور وغداء وعشاء لهم وتنظيف مكان معيشتهم يوميا، ظلت جدتى تستيقظ فجرا يوميا وتنتظر عربة الخضروات لتشترى لهم البرسيم وتذهب أسبوعيا للعطار لتشتري لهم الذرة المدشوشة، أو الذرة الصحيحة لتقوم بطحنها بنفسها بالرحاية، وكانت تصنع لهم وجبة كبيرة من العيش المبلول مع البرسيم والذرة يوميا، وذلك منذ تزوجت جدى وأتوا ليسكنوا فى القاهرة، وقامت بتربيتنا على هذه الطقوس ونشأنا ونحن نحب الحيوانات والطيور بجميع أنواعها، وكانت تحرص على إهداء جيرانها فى شم النسيم بيض الدجاج، حتى يستطيع أولادهم تلوينه فى عادة سنوية لها، وكنا نشعر دائما بالفرح ونحن نهدى لهم أطباق البيض احتفالا بشم النسيم، وكانت حريصة دوما كذلك على إهدائهم أطباق العاشورة فى المواسم والبصارة والرز بلبن، وزيارتهم دوما وعلمتنا كيف نحب ونحترم جيراننا، ونحرص على راحتهم دوما.
توفيت جدتى عام 2000 وافتها المنية سريعا بدون أن تتألم، وأوصتنا خيرا بطيورها، وكانت وصيتها الوحيدة الإعتناء بطيورها بعد موتها، كانت تخشى عليهم بعد موتها من تقصيرنا في حقوقهم، حتى ظننا أنها تحبهم أكثر منا، وفي هذا التوقيت شاع الحديث عن أنفلونزا الدجاج وبدأ جيراننا فى العمارة المقابلة فى الشكوى من وجود هذه الطيور عندنا وخوفهم على صحتهم برغم أنهم ظلوا لمدة أكثر من 40 عاما يرونهم يوميا ولم يتأذ أحد يوما منهم، وقام جيران العمارة المقابلة بإبلاغ الشرطة وجاءوا ليخيروننا بين ذبح الطيور أو دفع مخالفة والحبس إذا رفضنا، ووقتها فضل أبى ذبحهم كى يريح رأسه ويتقي المشاكل، برغم حزنه الشديد عليهم، ولكن لم يكن بيديه شيئا وهو الإنسان المتعلم المدرس بعلوم الأحياء.
توفى أبى سريعا فجأة بدون سابق إنذار فى عمر الثانية والخمسين بعد جدتى بعشرة أشهر حزنا عليها، وأخذتنا الدنيا وتهنا فى دربها، وتغير الزمان فجأة بنا وتغيرت الدقى وتحولت من منطقة راقية إلى منطقة تعج بالباعة المتجولين ولا تخلو من الزحمة ولا التحرشات اللفظية والبدنية ولم يعد بإمكاننا النزول من المنزل إلا للضرورة القصوى وأصبح التلوث الضوضائي والبيئي هو السمة الظاهرة بوضوح في هذه المنطقة، وبعد الثورة ظهرت المظاهرات في شارعنا الهادئ وظهرت أمامها مطاردات المواطنين الشرفاء والشرطة للمتظاهرين وضربهم بالخرطوش والرصاص، وكنت أصور هذه المطاردات من بلكونتي فى الدور الرابع بإستمرار إلى أن أصاب أبنائي الرعب وبدأ يظهر عليهم فى شكل كوابيس يومية ومشي أثناء النوم مما جعلني أتخذ قرارى بالرحيل عن منطقتى خوفا على أطفالي وحفاظا على صحتهم النفسية.
كان حبى لأولادي سببا رئيسيا لذهابى لمنطقة هادئة مناسبة لهم ليستطيعوا تمضية وقتهم بأمان فقررت الذهاب للرحاب وسكنت بها 3 سنوات حتى عرف جيراننا ميولنا السياسية فأصبحنا منبوذين ولم نرتح وسط جيراننا فرحلنا بهدوء إلى منطقة أخرى أبعد.
فى هذا الوقت لم أنس حبى للحيوانات فقمت بشراء جرو وتبني آخر وتبني قطة حتى يتعلم أولادى الرحمة مثلما علمتنا جدتى وقامت بتربيتنا، رحلنا إلى المدينة العالمية فوق الأرض المصرية، وكنا نظنها ستكون أكثر أمانا وتحضرا بين ناسها وأهلها.
فى تلك الأثناء ولدت قطتى قطيطات صغيرات وكانت ترضعهم حتى قررت فطمهم بعد أن أصابها الهزال، وتولى مسئولية إرضاعهم الكلب الذى يعيشوا معه سويا، نعم قام بإرضاعهم الكلب الذكر، ولكم أن تصدقوا أو ترفضوا التصديق، إنها رحمة الخالق، ولكنه حدث ومازال يحدث.
بالأمس اكتشفت أن جيراني المتحضرين قاموا برمي سم الفيران فى حديقتى كي يقتلوا حيواناتى المسكينة التى لا تؤذي أحدا ولا تنطق لتشتكى، بالأمس تمنيت الموت لأرتاح من معاشرة البشر.