منذ قيام ثورة يناير؛ وهناك سؤال ساخر يطرحهُ الجميع: \”رايحة بينا على فين يا مصر؟\”، وفي هذا الصدد تم رسم كثير من الكاريكاتيرات الساخرة التي تحاول أن توضح الإجابة \”مصر رايحة على فين؟\”.
أنشغل الجميع بالسؤال وطرحه الكل بنفس الطريقة الساخرة، ولم ينشغل أحد بالبحث عن إجابة، أو محاولة لفهم وتحليل ما آلت إليه الأمور.
لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه؟ لماذا كلما انتصرنا على نظام استفحل من جاء بعده؟ هل بالفعل تم تغيير النظام منذ رحيل مبارك في فبراير 2011؟ أم أنها شكليات؟ هل هناك ثمة شيء لو تم التركيز عليه قد نصل إلى ما نريد؟
نعم، نظرية التطور لدارون؛ التي أثبت فيها انتماء كافة الكائنات إلى خلية واحدة -لا شأن لنا بالنظرية ذاتها الآن- وإنما هي نفس النظرية تطبق حرفًيًا على الوقع الراهن في مصر، فكل المشاكل التي تعيشها مصر ترجع إلى سبب واحد فقط كما أرجع دارون، كل الكائنات إلى خلية واحدة، غياب الحياة الحزبية؛ بدون أدنى مبالغة أرى أن هذا هو السبب الحقيقي في تكوين الدكتاتورية وهيمنة الصوت الواحد وتأليه الحاكم حتى لو مات الشعب جوعًا وجهلًا وفقرًا شأنه شأن الإله لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُم يُسْأَلُونَ!
نترك هذه المرحلة قليلًا ونعود معًا إلى بداية نهاية الحياة الحزبية في مصر، يوليو 1952، عندما تغير تاريخ مصر بشكل كامل، أحمد عرابي الذي حاول وفشل، أصبح زعيمًا، ومحمد نجيب، أول رئيس بعد حركة 52، أصبح تافهًا لا دور له، والملك فاروق، الذي تنازل عن العرش لنجله صاحب الـ ستة أشهر؛ قيل أن الشعب ثار عليه! وقتها تغير كل شئ من النقيض إلى النقيض، ولكي يتغير كل شئ كما يريد الزعيم لابد أن تخرس الألسنة وأن يكون الصوت واحدا،
وبالفعل وبعد 4 أشهر من قيام حركة ضباط يوليو، أُصدر قانون بحل الأحزاب السياسية وتم استبدالها بالاتحاد الاشتراكي، ومنذ هذا الحين أصبح ناصر هو الزعيم القائد الذي عندما خسر كل الحروب التي دخلها ظل كما هو الزعيم المفدى الذي لا يقربه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه!
وجاء السادات الذي عانى من الشيوعية والناصريين والاشتراكية، فصّدر نفسه على أنه الرئيس المؤمن بالتعددية الحزبية بدلًا من نظام التنظيم السياسي الوحيد، لن أخوض في فرعيات فتح الطرق للإسلاميين وما إلى هنالك، فليس هذا محور الطرح، ولأن السادات غير مؤمن، كما نادى بالتعددية صنع الحزب الوطني وترأسه لندور في نفس دائرة ناصر، بدلًا من الاتحاد الاشتراكي، الحزب الوطني أو الحزب الحاكم.
واستمر الوضع كما هو عليه ثلاثين عامًا من التحول الظاهري، من الاتحاد الاشتراكي إلى الحزب الوطني، ولكن هذه المرة بقيادة مبارك، وبعد ثورة يناير وتولي محمد مرسي، مقاليد الحكم، ظهر دور الأحزاب السياسية في المعارضة وتوجيه الحكومة، وبعد رحيل مرسي الذي يحمل الكثير من علامات التعجب، أدرك السيسي خطورة الأحزاب السياسية، فقضى عليها بالتهميش وعدم الاهتمام.
السؤال المطروح: لماذا كل هذا الرعب من الحياة الحزبية أو التعددية الحزبية؟ وكيف يمكن خلق ديكتاتور فقط بمجرد غياب الأحزاب؟
الإجابة ليست صعبة، الأحزاب السياسية هي تنظيمات سياسية معترف بها في القانون المحلي والدولي، وهو المنافس الدائم والقوي لرأس النظام، كما أنه الممثل الشرعي للمعارضة داخليًا وخارجيًا، فضلًا عن كونه يسعى إلى بلوغ السلطة السياسية داخل الحكومة من خلال تقديم مرشح له في الانتخابات الرئاسية، أو من خلال دعم أحد المرشحين بالحملات الانتخابية، كما أن الأحزاب السياسية تمارس الديمقراطية بشكل مصغر من خلال انتخاب أعضائها في أمانات الحزب المختلفة بكافة المحافظات حتى تصل إلى انتخاب رئيس الحزب، وترشيح أعضاء ينتمون للحزب لخوض الانتخابات البرلمانية، وانتخابات المجالس المحلية، واتحادات الطلاب عبر كافة الجامعات، وانتخابات النقابات العامة والمستقلة، غير باقي الأدوار التى لا تقل أهمية عن ما تم طرحه مثل تثقيف الجماهيير وحثهم على المشاركة في السياسة وتأهيل وتشجيع الأفراد لتولي المناصب العامة، التي تكون عامل الربط بين الجماهير ومتخذي القرارات الحكومية، فضلًا عن القيام بنشاطات اجتماعية وندوات عامة لتثقيف الناخبين والمواطنين بشكل عام حول النظم السياسية وتشكيل القيم السياسية العامة، وخلق قنوات لنقل الرأي العام من الجماهير إلى الحكومة، غير مشاريع القوانين التي تقوم بها الأحزاب وتقدمها للحكومة، المشاركة في التشريعات بعد الحصول على مقاعد داخل البرلمان من خلال الانتخابات، المساهمة في تشكيل الحكومة.
هذا ليس كل شئ عن الأحزاب وعن أهميتها ودورها في خلق مجتمع صحي يقوم على التعددية الفكرية ويسعى للديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة، دور الأحزاب أكثر أهمية من ذلك، أعرف أن ما يلوح في الأفق الآن كيف يمكننا خلق أحزاب حقيقة في ظل نظام حالي يقوم على الصوت الواحد؟ ما أعرفه أن الحقوق تنتزع والحرية لابد لها من قرابين، ونحن قدمنا الكثير من أجل الوصول إليها، لكن طالما ظل عدد الأحزاب في مصر بهذا الشكل السئ وظلت الأحزاب السياسية قائمة إما على شخص بعينه تنهار حال رحيله -حزب الدستور نموذجا- أو صراعات على السلطة، وكأنه صراع على تولي حكم الأرض بمن عليها -حزب الوفد نموذجا- فإننا بكل تأكيد نساعد النظام على تدمير التعددية الحزبية من جهة، وتجبُره من جهة أخرى.
الحل سبق وطرحته عبر مقال نشر في مايو 2015 بموقع زائد18، يحمل عنوان السياسة والثورة أيهما الأول؟ والآن أعيد طرحه كما هو بعد عامين كاملين:
الخلاصة. يجب أن تُعلن القوى المدنية توجهها وبقوة نحو حزب ما من الأحزاب الحالية، أو إنشاء حزب جديد يتم دعوة كل القوى المدنية إليه، بحيث يكون القوة الضاربة التي تتبنى الحراك الميداني والسياسي والتنويري على حد سواء، ولا أرى أن هذا مستحيلًا. المستحيل هو عدم البدء فورًا في التنفيذ، فلو استمر الوضع على ما هو عليه، لن يصل صوتنا أبدًا إلى العوام -وهذا ما حدث بالفعل- ولن يتبلور مجهودنا إلى الوصول إلى سدة الحكم، ولن يُصبح الشباب خصوصًا \”غير شوية عيال مش فاهمة\”، والقوى المدنية عامة \”غير ممولين عايزين يخربوا البلد\”، والمرأة عورة والأزهر مَصدر التنوير، رغم \”لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وجواز زواج الصغيرات في الشريعة\”، والكنيسة شعب وما دونها شعب آخر.
ثورة بلا سياسة إلى زوال، وسياسة بلا تكتل، قصر أجوف، وليتنا نُسمع.
