سامية بكري تكتب: حسدوني وباين في عينيهم..على إيه يا حسرة؟

بعد يوم طويل مجهد، وأثناء عودتي  بالمترو في عربة السيدات، لاحظت أن إحداهن تشير لسيدة واقفة  تحمل طفلتها، إلى أن هناك شيئا قد التف على ساق الطفلة ذات الشهور القليلة، نظرت وغيري من الراكبات لنرى ما في الأمر، فإذا بالسيدة تبتسم بثقة قائلة إنها شبكة  لمنع الكبسة والحسد.

كنت قد رأيت وسمعت وعايشت، بل واستخدمت  كثيرا العيون الزرقاء والكفوف، كغيري ممن يؤمنون بأن الحسد مذكور في القرآن وموجود بالأنفس، قرأت المعوذتين لنفسي ولأطفالي، لكنني لم اكن قد سمعت من قبل أن شبكة الصياد تقي من الحسد! وأن اقتناء أجزاء منها ولفه حول القدم أو الخصر أو اليد كاف لدرء عين الحسود وصدها، فإذا بالسيدة التي تلف جزءً من الشبكة حول ساق ابنتها تؤكد لنا أن الشبكة مذكورة في القرآن، وأنها تجلب الرزق وتمنع المرض والحسد والعين، وقد حلت مشاكل كثيرة كانت طفلتها تعاني منها.

إلى هذا الحد وتوقفت عن الحديث معها، حتى لا ادخل في جدل فارغ، لكنني أخذت افكر طويلا  في حال هؤلاء النسوة الغلابة، اللاتي يخشين الحسد، حيث تفاعل مع المراة عدد لا بأس به من الراكبات، مؤكدات أنهن جميعا مصابات بالعين.. منهن من تمرض بلا سبب، ومنهن من تأخر زواجها، ومنهن من خاب أطفالها في مدارسهم بسبب العين الحسودة.

اخذت اسأل وأرد على نفسي: لماذا استكثر عليهن أن يكن محسودات؟ الجمال والمال والنفوذ والشهرة، ليسوا وحدهم أسباب الحسد.

ربما نالتهن أعين جارة تفتقد العافية في ابنتها، وربما اقتنصت فرحتهن وضحكتهن الصافية عين صديقة كئيبة لا يضحكها حتى العيش الساخن، بل ربما نالت صورة سيلفي لإحداهن على الفيسبوك حسد صديقة افتراضية لا تنال صورتها نفس عدد الإعجابات.. من يدري؟

كنت قد عاينت طويلا فوبيا الحسد في مجتمعي.. لا انسى أبدا يوم شبت النار في دارنا، أثناء إعداد أمي الطعام، بعد حصولي على ترتيب على مستوى الجمهورية لأوائل الثانوية العامة.. يومها أرجعت أمي ما حدث للعين التي اصابتنا بسبب تفوقي، ولا انسى أبدا أمهات زملاء أولادي، اللاتي لا يذكرن من قريب أو بعيد نتائج أبنائهن خوفا من الحسد، بينما يتحرين نتائج الأطفال الآخرين، وكثيرا ما اضبط نفسي متلبسة برغبة في الخلاص من صداقة إحداهن وصحبتها، لأنها ما من مرة لمحت نعمة في يدي إلا وحسدتني عليها.

الغريب أن هناك من لا ينقصها النعم، بل ترفل فيها، وتستحق أن تُحسد، إلا أنها دائما تنظر حولها لما في يد الأخريات  لتبدي إعجابها به، ولو استطاعت أن تأخذه لأخذته طوعا أو كراهية، سواء كان زوجا أو قطعة ملابس أو فكرة جديدة.

لا اريد من سطوري تلك أن اقدم تعريفا للحسد أو وصفة لتفادي الحسد.. كل ما اود أن ابحث فيه، هو لماذا زاد الحسد وانتشر على كافة المستويات وفي كل الأوساط؟ ولماذا بالتالي زادت فوبيا الحسد ومحاولات علاجه والوقاية منه؟

في علم النفس: على المستوى الذاتي فإن الحسد مؤشر لاضطراب في الشخصية، وهو محصله تحكم العديد من الانفعالات السلبية، كالغضب والخوف والكراهية وعدم المقدرة على المواجهة والضعف والشعور بالعجز وعدم الثقة بالنفس، وظاهرة الحسد وإن كانت لها جذور في النفس البشرية، إلا أنها ليست غريزة, بل هي ظاهرة نفسية ترجع الى عوامل تربوية، اجتماعية، ثقافية.. متفاعلة كالحرمان والنقص والطرد الاجتماعي.. فهي محاولة سلبية لتعويض مركب نقص مادي أو اجتماعي أو تعليمي أو ثقافي.. ويتفاوت الأفراد في مقدرتهم على الضبط الذاتي لانفعال الحسد، فقد يبقى عند البعض على مستوى الانفعال الذاتي دون أن يتحول إلى فعل، وقد يتحول عند آخرين إلى فعل رافض للمجتمع، وقد يأخذ هذا الفعل الرافض للمجتمع شكلا سلبيا، قد يصل إلى أن يكون حالة مرضية، لا يتردد الأطباء النفسيين في النصح بعزل صاحبها في المصحات المتخصصة لعلاجه من رفضه الاستجابه إلى واقعه الاجتماعي، وقد يأخذ شكلا إيجابيا قد يتجسد في مواقف مضادة لقيم المجتمع، فتثير استنكاره واستهجانه، وقد يصل إلى أن يكون حالة إجرامية لا يتردد القضاء في الحكم بسجن صاحبها أو حتى إعدامه، عندما يصل رفضه للمجتمع إلى حد تحدي حركته أو وجوده كما في حالة ما يسمى بجرائم الحقد.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن الحسد هو تعبير ذاتي فردي عن اختلال موضوعي اجتماعي للتوازن في العلاقه بين الفرد والمجتمع، وأن الأصل في العلاقه بين الناس في المجتمع قد اصبح هو الصراع لا المشاركة .

والنقطة الاخيرة نلمحها كثيرا في مجالات العمل، فهناك دائما في مجتمعاتنا من لا يفكر إلا في ارتقائه وصعوده، بغض النظر عن المصلحة العامة للعمل.. يشعر من يعمل بجواره أن هناك أسرارا  كهنوتية لما يقوم به.. يخشى أن يعرفها الآخر فيستولي على مكانته،  ومن هنا يقل لدى من يحمل مهنة أو صنعة الميل إلى تعليم الآخر أو نقل الخبرات له، ويظل كل جيل معتمدا على نفسه في الحصول على خبراته وصقل مهاراته وبالتالي يضن بها على من يجيئون بعده.

ناهيك عن أسلوب التربية المعتمد على المقارنة بالآخرين، وجعلهم دائما مقياسا للتقدم والرقي..  نحن ننظر لزميل الفصل والجامعة   الأكثر تفوقا أو مالا، والجار صاحب الملابس الراقية المهندمة وصديق الفيس بوك الذي يجوب العالم ويغرق الحائط بصوره، والجارة التي تزوجت ابنتها بشاب وسيم يملك سيارة، بل وننشر صورا من دول أخرى نحسدها على تقدمها، دون أن نسال عن أسباب تأخرنا، ولسان حالنا يقول دعونا نقر وننق ونحسد أولا لنخرج ما بداخلنا من طاقة سلبية.

ولكي اكون منصفة، فليست مجتمعاتنا من اخترع الحسد، فالأمر يضرب بجذوره أيضا في  الغرب المحسود، ففي الفلسفة الغربية رغم أننا  نجد أن تيارا فلسفيا يمتد من الرواقية إلى كانط، يجعل العلاقة الأساسية بين البشر، هى علاقة مشاركة، فإن هناك تيارا فلسفيا آخر يمتد من السوفسطائيه إلى هيرقليطس إلى فردريك هيجل وكارل ماركس ونتيشه وجان بول سارتر، يجعل العلاقة الأساسية بين البشر، هي علاقة صراع، والتيار الاول ينظر إلى الحسد كانفعال وسلوك سلبي..  يقول أرنست هيجل: \”الحسد أغبى الرذائل إطلاقا فإنه لا يعود على صاحبه بأية فائدة\”، ويقول ايرل اوف روشستر: \”الحسد عاطفة مفعمة بالجبن والعار، بحيث لا يجرؤ إنسان على الاعتراف بها\”، لكن التيار الثانى ينظر في كثير من الأحيان إلى الحسد كانفعال لا يخلو من قيمة إيجابية، ففى بعض الكتابات الماركسية، نجد تحليلا إيجابىا لمفهوم الحقد الطبقي، باعتباره تعبير عن الصراع الطبقي كمحرك للتاريخ، استنادا إلى المادية التاريخية التي هي محصلة تطبيق المادية الجدلية على التاريخ، ومضمونها أنه داخل المجتمع يتطور أسلوب الإنتاج (البنية التحتية) بفعل التناقض بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج بصورة صراع طبقي بين الذين يعبرون عن الأولى، والذين يعبرون عن الثانية.. كل هذا التطور في (البنية التحتية) ينعكس على البنية الفوقية، وهي القانون والأخلاق والدين والفن. كما نجد تحليلا إيجابيا للعديد من الانفعالات السالبة ومنها الحسد عند سارتر في مؤلفه \”الوجود والعدم\” 1942م، والذي استخدم فيه المنهج الظاهراتي (كما أسسه هوسرل) في دراسة الوجود الإنساني، وفيه انطلق من الوجود الفردي الذي حوله إلى وجود مطلق، وجعل العلاقة بين الإنسان والآخرين هي علاقة صراع لا علاقة مشاركة، وقد عبر عن هذا بقوله (الآخرون هم الجحيم)، لأن الآخر عندما ينظر إلي فإنه يحيلنا من ذات إلى موضوع.

وهكذا غلب التيار الثاني، خصوصا مع تناقص فرص الحياة الكريمة وصعود شرائح طبقية في مقابل تهميش أخرى وسقوطها، فكلما ضاقت الفرص واحتد الصراع، كلما زادت ظاهرة الحسد واتسعت فوبيا الحسد كوجهين لعملة واحدة، بل إننا جميعا اصبحنا نحسد ونخشى أن نُحسد، ولا نتوقف عن التخميس في وجوه بعضنا البعض إذا بانت علينا أية نعمة، بدءً من النجاح في انقاص بضعة كيلو جرامات، حتى النجاح في الحصول على وظيفة في وزارة الاتصالات، مرورا  بكتابة بوست على الفيسبوك عن يوم سعيد قضيته في العين السخنة أو أكلة بامية في عز موسمها مرتفع الثمن.

مصادر:

ظاهره الحسد بين العلم والفلسفه والدين 
د.صبري محمد خليل – أستاذ الفلسفة بجامعه الخرطوم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top