توقعت أن يكون الوصول لسينما تعرض فيلم \”اشتباك\” أكثر صعوبة، ولكن بسؤال بسيط وملصق دعائي كبير في شارع عماد الدين، وجدت نفسي في قاعة ممتلئة نسبيا -كما يليق بفيلم تجاري في أسبوعه الأول– بين جماهير تتبادل أحاديث متناثرة حول \”خناقات\” مواقع التواصل الاجتماعي التي سبقت عرض هذا الشريط السينمائي، ولا تطيق الانتظار لتحديد مواقعها من تلك الخناقات بعد أن تم استقطابها في معركة مرتبطة بفيلم يرفع صناعه شعار \”لا للاستقطاب\”!
يحكي \”اشتباك\” عن مجموعة مواطنين مصريين يمثلون توجهات وشرائح مختلفة من المجتمع، يتم إحتجازهم عشوائيا في سيارة ترحيلات تتجه إلى المجهول، حتى تصل في النهاية إلى (مظاهرة غوغائية) يقوم متظاهروها بالقضاء على من بداخل العربة.
ليس سرا أن هذه العربة تمثل مصر، فهذا ما نعرفه حتى من قبل الفرجة، من خلال أحاديث صناع العمل أنفسهم، أو عن طريق الإعلان التشويقي.. نحن إذا أمام فيلم رمزي يحاول حصر الحالة المصرية بعد عزل \”مرسي\” في تلك النماذج التي تم إحتجازها، وكما يجب على أي عمل رمزي، تنتهي الحكاية بحكمة كبيرة، فهؤلاء المحتجزين يذهبون إلى حتفهم بسبب إختلافاتهم تحديدا، وأين تكون نهايتهم؟ بالطبع في مظاهره غواغائية عنيفة، لم يهتم الفيلم بتحديد هوية المشاركين فيها.
\”لو روحنا أي مظاهره في الناحيتين، هنموت كلنا\”، هكذا يصرخ أحدهم داخل العربة محذرا، ولكن لا أحد من شخصيات الفيلم يسمعه وسط صراخ الجميع، أما نحن \”الجمهور\” فنسمعه بوضوح، لأن تلك الجملة تحديدا هي ما دأب الفيلم على تكريسه طوال الأحداث، فالسيارة التي جمعت المواطن العادي، بالإسلامي المتعاطف، والإسلامي الإخواني المعتدل بالإسلامي الرديكالي، والفقراء الذين يتكسبون المال من الخروج في المظاهرات، والسائس الذي يدفعه خوفه إلى تمثيل دور البلطجي بابن التجمع الخامس، الذي يحتفظ بصورة كلبه الجولدن ريتريڤر في محفظته، ومجند الأمن المركزي المسيحي، بالصحفي المصري الأمريكي، تلك السيارة في رحلتها إلى المجهول، عاشت في سلام لولا الإختلاف وهؤلاء الأوغاد في الخارج الذين كانوا يقطعون دائما اللحظات الحلوة الدافئة بحجارتهم وشماريخهم.
هل يذكركم هذا الخطاب بشئ؟ بالنسبة لي، فإنه يستدعي المداخلات التليفونية في برامج التوك شو، تلك التي تنتهي بجمل مثل: \”إحنا لو حبينا بعض أكتر واشتغلنا، بلدنا هتبقى قد الدنيا\”، أو \”ربنا يولي من يصلح\”، وكل هذه الجمل الشعبوية التي تبتذل وتعّوم قضايانا المهمة لتأجيل مواجهتها إلى مدى غير معلوم.
الفيلم يحاول أن يقوم بدور \”المطيباتي\”، ذلك الشخص الخلوق الذي يتدخل لفض الاشتباكات بأن يذّكر المتعاركين بالخصال الطيبة في الأطراف الأخرى من العركة، دون أن يقدم حلولا جذرية للمشاكل التي أدت لهذه الاشتباكات، وربما تصلح تلك المسكنات في اشتباك بسيط، ولكن في قضية بحجم تداعيات ثورة ٢٥ يناير، تتحول تلك الطبطبة وهذا التعويم إلى جريمة تستر على مجرمين.
لم يمر الكثير من الوقت على مشاهد إلقاء الجثث في ميدان التحرير، أو مشاهد فقأ العيون ورصاصات ضباط وجنود الأمن المركزي التي اخترقت صدور الشباب في محمد محمود، حتى ننسى ذلك ونحن نرى صورة الداخلية وهي تتحول على شاشة العرض إلى ضابط طيب القلب يتصنع القسوة حتى يتمكن من مواجهة الأحداث، ضابط يرفض أن تركب نيللي كريم عربة الترحيلات في بداية الفيلم ويطلب منها بأدب أن ترحل.
هل مثل هذا الضابط لا وجود له في الحقيقة؟ بالطبع موجود، ولكن حين تقدم عملا يتحول فيه كل شيء إلى رموز، فوجود مثل هذا النموذج يتحول بطبيعة الحال إلى محاولة دعائية هدفها غسل صورة الجهاز، حين أحدثك عن جسد مريض بالسرطان لا تطلب مني أن أنظر إلى بياض أسنانه، هذا لن يفيد أحدا، الحل الوحيد هو مواجهة المرض ومحاولة العلاج، بديهي.
لنتخيل أننا تصالحنا جميعا، واجتمعنا في صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة، ماذا بعد؟ أعتقد –حسب الفيلم- أننا يجب أن نحافظ على استقرار الوضع، ونبذ الخلاف والعيش في هدوء.. طيب لماذا قامت ثورة بالأساس؟! هل كانت حالة هيجان غوغائية علينا الاعتذار عنها؟ هل نحن المخطئون الآن؟ وبالمناسبة.. من هم هؤلاء الذين كان يطلقون النار والحجارة حول العربة في كل مكان، ويقطعون لحظات التعايش الإنسانية بين الشخصيات؟ هل هم الطرف الثالث؟!
ما الذي يفرق خطاب هذا العمل عن الخطاب الإعلامي للدولة؟
أعتقد أنه إذا كان ثمة حرب من النظام على هذا الفيلم، فإن الدافع الوحيد وراءها هو الغباء التقليدي لهذا النظام، لو كنت مكانهم لتبنيته وأعتبرته أفضل شريط دعائي لي!
إخراجيا.. نرى المحتجزين والشرطة في جانب واحد، وعلى الجانب الآخر جموع مرعبة تهددهم بالرصاص والحجارة، نحن \”الشعب\” والشرطة معا في مواجهة الجموع! هكذا، حرفيا! إذا، ما هو الثوري في هذا العمل، ما الذي يربطه بالثورة إذا كان هذا خطابه؟
في لقطة أخرى، العربة، الشرطة، والكاميرا محاصرين تحت كوبري أكتوبر ومن لقطة منخفضة نرى شبابا يلقون الحجارة ويطلقون الرصاص، يتلاحم المحتجزون مع الشرطة في محاولتهم للهروب من كل هذا الشر والعنف.
حتى على الجانب الفني كل ما استطاع الفيلم الوصول إليه هو تقديم دراما طويلة داخل مكان واحد، إنه تحدي صعب، ولكن مئات من الأعمال نجحت في تقديمه بشروط أصعب –\”بين السما والأرض\” تدور أحداثه داخل مصعد- الأحداث تسير في تصاعد خطي ولا شيء جديد على جميع المستويات، لا دهشة، ولا خيال، ولا اكتشاف.. اللهم إلا بعض \”الإيفيهات\” الطريفة هنا وهناك.
أصلا الفيلم دعائي تعليمي، مليء بالمشاهد الرمزية السخيفة، (الفتاة الإسلامية تعطي دبابيس طرحتها للمواطن العادي حتى يغلق جرحه، وهنا يظهر شعرها ويعجب بها الشاب الغني)، أو (عنف الشرطة الذي يظهر فقط حين يمسكون بالشاب الذي أطلق النار وقتل الضابط، وبعد أن يضربوه \”بأيديهم\” يتركون جثته وتتحرك السيارة/ الكاميرا بعيدا متبرأة منه ومن دمه.
حتى فكرة كسر الصور النمطية عن نماذج بعينها (الإخواني خفيف الظل الذي يغني لنانسي عجرم)، فهذا أقل ما أتوقعه من فيلم عادي يحاول تقديم مثل هذا المورال.
لنرجع إلى تكرار السؤال نفسه، ما هو الثوري في \”اشتباك\”؟ ما هو الثوري في فيلم يقدم رسالة سطحية تليق ببرامج التوك شو، ولا يأخذني لأبعد من ذلك؟ ما هو الثوري في فيلم يطلب من الضحية والمجرم أن يتصالحا، ويوجه اتهاما مبطنا للشعب؟ ما هو الثوري في فيلم تقليدي ربما يكون جيد الصنع؟
ولكن، هل على الفيلم أن يكون ثوريا؟ بالطبع لا، ليس على كل الأفلام أن تكون ثورية، ولكن هذا الفيلم تحديدا حاول صناعه (خارج وداخل شريطه السينمائي) أن يربطوه بالثورة، واعتبروا انتصار الفيلم انتصارا للثورة نفسها.. أعتقد أن الإصرار على إلصاق هذا الفيلم بالثورة هو نوع من أنواع البجاحة.