في إطار العبث العام وفوضى المصطلحات، التي ارتقت إلى حد المغالطة والتخبط واللبس لكثير من الأمور، يصدر أولئك المتشدقون بالبطولة –كالعادة- الأحكام المسبقة والتصنيفات على الغير، ويكيلون الاتهامات بالتلون والتذبذب لكل من لا يتفق مع رؤاهم أو تفضيلاتهم السياسية للمشهد السياسي الراهن، ولهؤلاء أقول الرأي الشخصي الآتي:
الثبات على المباديء والقيم المطلقة مثل الحق والعدل والخير وما إلى ذلك، بقوة وإصرار وتضحية، هو بلا شك فضيلة كبرى يشار إلى صاحبها بالبنان، وهي ليست بالشيء اليسير أو الهين، فبعض الناس يدفعون أثمانا باهظة في سبيل تبعات الثبات على مبادئهم وعدم التزحزح عنها مهما كلفهم ذلك.
وهذا برأيي لا يمت بصلة من قريب أو بعيد إلى الجمود والتعصب والتشبث المتطرف بالرأي – عمدا أو جهلا- فاحتكار الحقيقة وعدم القدرة علي إستيعاب المتغيرات، أو إدراك الصورة الأكبر، أو الانفتاح على الآراء المختلفة، هو – برأيي- شكل جلي من أشكال الجمود والتطرف المعرفي، حيث ينغلق الشخص على آرائه وأفكاره فقط دون سواها، ودون السماح لنفسه أو لغيره بمراجعاتها أو تطويرها أو إعادة النظر فيها، كما أن الشعور الجارف والطاغي بالتحمس الشديد والإندفاع الأعمى في الدفاع عن الأفكار والمواقف والآراء الشخصية، وعدم القدرة على الخروج من الخاص إلى العام – برأيي- هو أيضا شكل من أشكال التطرف الوجداني غير الصحي، والذي يؤدي إلى التشوش وانعدام الرؤية، الذي يؤدي بدوره في الكثير من الأحيان إلى التطرف السلوكي، كما نشاهد ونسمع يوميا من بذاءات واتهامات وعدائية واضحة.
الثبات على المباديء ليس مرادفا للجمود والركود والإنغلاق على الذات، وتغيير الرأي ومراجعة الأفكار والمواقف شيء صحي ومحمود ومتفتح.
الجمود تطرف قح، والتطرف أعمى وأصم وفاقد للبوصلة والهدف، وقد يصل بصاحبه وأفكاره إلى التضاد التام، وأبلغ دليل على هذا الآن، هو رؤيتنا لمتطرفي اليسار وهم يقفون جنبا إلى جنب في خندق واحد مع متطرفي اليمين، رغم تباينهم الأيديولوجي المفترض!
في رأيي المتواضع.. أننا في مجتمعاتنا الشرقية يلتبس علينا مفهوم الـ \”open-mindedness\” الدارج أو \”سعة الأفق\”!
فالناس -في الغالب- يستخدمونه للإشارة إلى تبني أفكار يراها صاحبها تقدمية أو متطورة بشكل ما، أو مخالفة لما هو سائد، كما يستخدم أيضا للتعبير عن حرية ممارسة بعض الاختيارات الشخصية بقدر من الجرأة أو التحرر، أو بشكل قد لا يستسيغه المجتمع أو لم يعتد عليه.
وليس – وهو الأصوب برأيي- للتعبير عن احترام الاختلاف، وتقبل الآخر، والإنفتاح على كل الأفكار، والدفاع عن الحقوق البديهية لمن لا نتفق معهم.
برأيي.. أن تكون open-minded، هو أن تكون لك أفكارك وآراؤك وتوجهك السياسي وسلوكك ونسقك القيمي، وبنفس الوقت لا تجد غضاضة أو نفور من الأفكار المختلفة والأراء المغايرة وسلوك ومظهر الغير، طالما لا يحاول صاحبها فرضها عليك.
أما تصنيف الآخر، وإصدار الأحكام، واحتكار الحق، واحتقار المخالف، والإنغلاق على الأفكار الشخصية واعتبارها من الثوابت المطلقة التي لا تقبل النقاش أو المراجعة، ودونها الجهل والشطط والغي وما إلى ذلك، فأنا لا أراه يمت لسعة الأفق بصلة، بل أراه نهجا متطرفا بإمتياز! تطرف معرفي على أقل تقدير.
برأيي.. مشكلة مجتمعنا الحالية، بل كارثته الكبرى في الوقت الراهن، لا تبدأ بالخلافات العنيفة والتي تصل \”دائما\” إلى التلاسن والتناطح والضرب تحت الحزام، ولا تنتهي بتكييل الاتهامات وإصدار الأحكام واحتكار الحقائق في حوار أشبه بحوار الطرشان!
المشكلة أصبحت، ليست مجرد \”الاختلاف\” بين اليمين واليسار، ولا المعارضة والموالاة، ولا حتى العلمانيين والأصوليين، المشكلة أكبر من ذلك وأخطر!
فعندما يتحول المجتمع بالتدريج إلى مجتمع رافض للتعددية التي هي الأصل والقاعدة، كاره للاختلاف، معاد للتنوع، يحاول فرض وصاية على الآراء والأفكار المغايرة، فلا معنى للتشدق بالحديث عن تغيير أو تقدم أو أي حاجة عدلة من أي نوع!
عندما ينعدم الحوار كما نرى، ويسود هذا الإرهاب الفكري وتلك النعرات الفاشستية في مجتمع ما، فاعلم أنه مجتمع متهالك ورث، وهنا تكون المصيبة! وأما إذا كان بقيادة وتحت رعاية ما يطلق عليها \”النخبة\” الحالية – اللي هي ولا نخبة ولا غيره- فالمصيبة أعظم.