كنت قد توقفت عن كتابة سلسلة الهجص تلك لظروف وفاة أبي، كما نما إلى علم الجميع، بل ووجدتني أكتب أشياء غاية في القتامة والسوداوية والكآبة، واتضح لي جليا أن الإناء -حقا- ينضح بما فيه، وعلى قدر عدم إعجابي ببث تلك الطاقة السلبية والترويج لها، إلا أني لم أكن أريد مقاومة أحزاني أو لي ذراع مشاعري من أجل عبور الأزمة، ولأني أحب أبي حبا جما، وأعرفه جيدا، وأعرف قدره و مكانته لدى القاصي والداني، فأجدني يغمرني شعور إستثنائي بالرضا والراحة، وفيض من السكينة والامتنان المبعثين على تسكين آلام الفراق وتخفيف الوجيعة وتجاوز المحنة.
ولأن طرق وأشكال رحمة ربنا تفوق الحصر أو التصور، فقد أرسل الله لي وأنا في قمة حزني وألمي.. عبير!
ما إن ولجت (عبير) من الباب حتى بدأت في طقوس المواساة المعروفة من ترحم حينا ودعاء حينا وما إلى ذلك، ومن ثم بدأت في الثناء على أخلاق أبي النادرة في هذا الزمان -على حد قولها- من مروءة وتواضع وكرم وحلاوة لسان إلى آخره.. كانت تتحدث عنه بحب وشغف صادقين، ورأيت عيناها وهما تفيضان بالدمع عند ذكره، وعلى قدر تأثري من حديثها، إلا إنه غمرني بشعور مطمئن، وارتياح مفاجيء كنت في مسيس الحاجة إليه.
لم يداخلني الشك أن الله قد أرسل إلي (عبير) لينتشلني من التفكير والحزن، لكني لم أتوقع قط – مع معرفتي الجيدة بعبير- الحوار التالي!
عبير: بصي يا مدام سارة، هو في الجنة.. خلاص! أنا بقول لك كده، إطمني!
أنا: لأ طالما إنتي اللي بتقول لي كده يبقى خلاص.. على خيرة الله، شكرا يا عبير.
عبير: ممكن أعرف إنتي بتعيطي ليه دلوقتي؟
أنا: إنتي ماعندكيش خبر ولا إيه يا عبير؟! ما إنتي بقالك ساعة بتواسيني!
عبير: مانا قلت لك بأه.. الراجل ده في الجنة.. مش لسه قايلة لك؟
أنا: آه صحيح بلغتيني.. بس الفراق مش سهل يا عبير!
عبير: صحيح، في دي عندك حق، وهو ده كان أي حد؟ ده مفيش زيه في الدنيا بحالها!
أنا: شفتي بأه؟ يبقى سيبيني أعيط بأة!
ساد الصمت المكان لبضعة ثواني، إلا من صوت الشحتفة والشن من حين لآخر، وبدأت (عبير) في ترتيب البيت ولم الأكواب المستعملة إلى المطبخ إستعدادا لاستقبال وفود المعزيين التي لا تنقطع، ثم توقفت فجأة، وإستدارت موجهة حديثها إلي قائلة بحدة: عارفة إيه أحلى حاجة في أبوكي يا مدام ساره؟
أنا: إيه يا عبير؟
عبير: إنه ماكنش راجل وسخ!
لا أعلم إن كان تطرف حالتي من البكاء الحار إلى هيسترية الضحك المفرطة كان حالة شعورية غير طبيعية نظرا لعدم إتزاني العاطفي آنذاك، أم أن ما قالته (عبير) في رثاء أبي هو بالفعل مفجر للضحك!
تجمدت (عبير) لردة فعلي العجبية، لكنها سرعان ما تخطت دهشتها وأردفت مبررة: هو لو كان راجل وسخ ولا بطال كان يسكن في شقة زي دي؟
أنا (ونوبة الضحك مازالت تتملكني): مالها شقته يا عبير؟
عبير: يا ختي دي حؤ! غيره ساكن في فلل وقصور! ده لو كان يشاور بس كان يسكن في أفخمها قصر! غيرش هو راجل محترم ومالوش في الخبص والوساخة!
عبير: بتضحكي على إيه يا مدام ساره؟ والنبي بتضحكي على إيه؟
ثم رمقتني (عبير) بنظرة تقطر شفقة ومضت إلى حال سبيلها وهي تغمغم: لا حول ولا قوة إلا بالله!
(عبير) بتحط التاتش بتاعها في أدبيات المواساة والرثاء.. طالعة تعزينا دي ولا تهزأنا ولا بتنيل إيه بالظبط؟
(عبير) في هذا اليوم كانت قطعا شكلا جليا من أشكال رحمة ربنا.