إذا اتفقنا أن حب الأباء للأبناء هو الحب الأقرب إلى الكمال والإيثار والعطاء غير المحدود أو المشروط واللامنطقي، فلابد أن نعترف أن هذا الحب الإستثنائي يضع المحبوب في مرتبة خاصة ومتفردة وحصرية في عيون المحب، فالأب بطبيعة الحال يتوقع من إبنته تحديدا هذا النوع المتطرف من الحب \”الحصري\”!
نجد أن معظم الأباء تنتابهم تلك المشاعر الواضحة بالغيرة والتأفف وعدم الارتياح من خطيب الإبنة أو زوجها لاحقا، إلى حد أنها إذا لم تقف بطريقة بهلوانية متوازنة في هذا الموقف الشائك، قد لا تستطيع تجنب حمم بركانية ملتهبة تأججها روح التنافس والغيرة غير الموضوعية!
لكن عناية السماء أنقذتني من الإنزلاق في هذا الفخ مرارا.
ولأن علاقتي بأبي علاقة فريدة وإستثنائية وحميمة – كما يعلم المقربون- فطالما كانت فكرة وجود من يريد أن يتحدث إليه في أمر \”خاص\” يتعلق بي، فكرة مقلقة، وتقابل دائما بالسؤال الإستنكاري: \”وده عايز إيه ده بأه إن شاء الله؟\”
الحق أنه لم يرفض الفكرة أو حتى يستبعدها، لكن إحساسه \”الخاطيء\” أن هناك من يستطيع أن ينافسه في حب إبنته وفلذة كبده كان يملأه غيرة وغيظا وتلكيكا للمرشح المحتمل، لكن الله غالب على أمره، فها أنا أستعد لحفل زفافي بعد خطوبة قصيرة لم تخل من التحفز والتحريض والغيرة اللامنطقية، بل وتشجيع مستتر على العدول عن الفكرة إن أردت، وأشياء من هذا القبيل، بس مشي الحال وعدت، وجاء اليوم الموعود.. يوم زفافي!
تمتليء الغرفة بالصديقات الصاخبات مفرطات الحركة.. أضع اللمسات النهائية قبل نزولي لقاعة الاحتفالات لبدء مراسم التنصيب، ارتدي الزي الأبيض الرسمي المهيب، المرصع بالشخاليل والدلاليل.. أضع كميات خزعبلية من البويات والدهانات المقاومة للرطوبة والحريق، من يعلمني جيدا يعلم ولعي بعالم التزيين والتجميل، و ده فرحي بأه.. مش هزار! يعني مش أقل من وش معجون، وسنفرة ناعمة، ويليهم وشين بلاستيك قبل ما نبدأ الشغل النضيف!
تمام كده؟ خلصنا كل الكلام ده، والشغل طلع زي الفل.. تسلم إيديكوا يا أسطوات.. أقف بالغرفة في كامل زينتي ولعلطتي، مش ناقص غير نزول جملة (إخراج: فهمي عبد الحميد)!
في هذه اللحظة.. يلج أبي من باب الغرفة.. يكسو ملامح وجهه خليط متناقض من التجهم وإفتعال الإبتسام.. يثني على مظهري، ثم يطلب مني الجلوس قليلا للتحدث إليّ.
أجلس على السرير.. يسحب أبي كرسيا، ويجلس أمامي.. ينظر إلى عيني مباشرة، ويدور الحوار الآتي:
بابا: عايز اتكلم معاكي
أنا: إيه فيه إيه؟ مكشر ليه؟
بابا:….
أنا: العريس هرب؟ العروسة اتخطفت؟ البهايم اتسممت؟ اللحمة إتأممت؟
بابا: بس يا سارة بأه.. بطلي هزار.. أنا باتكلم جد!
أنا:!!!
بابا: سارة.. إحنا دلوقتي هننزل نكتب الكتاب
أنا: أيوة يا بابا
بابا: ماشي؟
أنا: سؤال متأخر.. بس ماشي
بابا: طيب إفرضي بأه إن وضعك الجديد ده ماعجبكيش؟!
أنا: سؤال مبكر.. بس ماشي
بابا: بطلي بأه هزار.. أنا بكلمك جد دلوقتي! هاتعملي إيه ساعتها؟
أنا: ؟
بابا: تتطلقي فورا
أنا: حاضر يا بابا
بابا: ها؟ هاتعملي إيه؟
أنا: هاتطلق يا بابا
بابا: أيوة كده.. طيب لو مارتحتيش لأي سبب؟ تعملي إيه؟
أنا: هاتطلق طبعا يا بابا
بابا: تمام.. وتيجي بأه عند بابا.
أنا: أيوة طبعا، أومال هاروح فين؟
بابا: على فكرة.. مش لازم يعني حاجة كبيرة تحصل! يعني يكفي إنك ماتتبسطيش لأي سبب من الأسباب.. فاهماني؟
أنا: آه طبعا.. لا ماتخافش.. هاتطلق وش!
بابا: يعني إفرضي إنك صحيتي يوم وحسيتي إنك إتسرعتي، أو إنك غيرتي رأيك؟ يبقي إيه؟
أنا: أتطلق يا بابا.
(مجانص في البوليس الحربي: شوربة يا افندم)
بابا: أو لو لقيتي مثلا إن نمط الحياة ده مش مناسب ليكي.. يبقى إيه؟
أنا: يبقى الطلاق فورا طبعا.. ودي عايزة سؤال؟
بابا: ساره.. مش عايز أفكرك إن مش لازم سبب الطلاق يكون كبير على الإطلاق!
أنا: لا طبعا ما أنا فاهمة.. وأنا هاستنى سبب كبير ليه؟ ما الأسباب التافهة كتير! لا خلاص أوعدك، هاطلق عند أول محك! وعد!
بابا: أو مثلا حسيتي كده إنك….
أنا (مقاطعة): باقولك إيه؟ ما تمشي المأذون من قصيرها كده.. إحنا لسه هانتجوز ونتطلق؟ وعلى إيه؟
تجمد بصر أبي عليّ، ثم ضحك، واحتضنني بقوة، ثم أخذ يدي ونزلنا إلى القاعة وأسنانه تصدر صريرا مؤلما من شدة الجز.
نظرة من بعيد على المشهد:
ليل- داخلي – غرفة الفندق
لقطة واسعة للعروس في كامل زينتها في حوار جانبي مع أبيها، وهي تكرر بشكل يدعو للدهشة والتساؤل: \”هاتطلق، هاتطلق، هاتطلق يا بابا، طبعا هاتطلق يا بابا\”، وهي لم تتزوج بعد!
فيبتسم الأب ويحتضن إبنته مطمئنا، ثم ينزل تتر النهاية مع أغنية (وسع من وش العقلاء… لااااااء لاااااااااااء)