إذا كانت الحمية الغذائية كما نعتقد ونؤمن، شر لابد منه، وطريق النجاح الوحيد بها، هو طريق الزهد والتعفف وكبح جماح الشهوات، فهذا يغلق الباب تماما ونهائيا أمام التفكير بالملذات، والابتكار في أصناف الطعام المختلفة، والاقبال على الحياة بشكل عام، فما دمنا نمشي في دروب التشقف، فلا مفر من اتباع الأساليب التقليدية الناشفة التعيسة في تلك الدروب، وطالما أننا اتخذنا هذا القرار الحتمي الحزين، فلابد أن نبدأ رحلة الحرمان والذل بقلوب مفتوحة وإرادة حديدية قادرة على مواجهة رياح الإغراء والإحباط واليأس القادمة من كل حدب وصوب.
يا مسهل يا رب، إستعننا على الشقى بالله، مابدهاش بأه.. إنها الحمية!!!
كشأن أي تعيس متبع للحمية الغذائية يشق طريقه في الصخر، بدأت اليوم الأول بإفطار خفيف، ثم ذهبت إلى عملي سيرا على الأقدام، وعدت إلى البيت سيرا على الأقدام وأنا أدندن لحن تتر برنامج (فرسان الإرادة).
وإمعانا في الذل.. وقفت في المطبخ أعد الغداء للأولاد، مكرونة بشاميل نزولا على رغبتهم التي لا تعرف الرحمة، ياللا.. هما هايروحوا من ربنا فين!!!
المهم.. وضعت للأولاد غداءهم على المنضدة وأنا أصارع غددي اللعابية ببسالة وثبات، وذهبت إلى منضدة نائية كنت قد وضعت عليها غدائي المكون من سمكة مشوية وطبق سلطة.. صحيح، اللي مرباهوش أهله يربيه الدايت!!!
وما إن هممت بتناول غدائي حتى وجدت (آدم) و(يحيى) على رأس المائدة، يحملقون بطبقي صامتين.
أنا: أهلا وسهلا، منورين، يا ترى إيه سبب الزيارة المفاجئة دي؟ أنتوا مآنسينني طبعا.. بس خير يعني؟
تبادل (آدم) و(يحيى) نظرة سريعة ذات مغزى لبعضهما البعض، ثم بادرني (يحيى) متسائلا: أنتي ليه مش بتاكلي مكرونة زينا؟
أنا: علشان عاملة دايت يا يويو، عايزة أخس
يحيى: وهتاكلي إيه؟
أنا: زي ما سيادتك شايف كده!
يحيى: سمكة ميتة؟
كان وقع تلك الكلمة على أذناي كفيلا بأن يلقي بشهيتي الضعيفة تجاه السمكة إلى الجحيم طبقا لقانون التأثير النفسي، فتعلق بذهني على الفور صورة للسمك النافق العائم على أسطح البحار والأنهار، وأربكتني كلمته كثيرا، فقلت متلعثمة: ميتة؟؟؟؟؟؟ لا طبعا مش ميتة!!!
يحيى: صاحية؟؟؟
أنا: لأ.. هي مش صاحية، بس ميتة دي حسستني إنها ماتت بعد صراع طويل مع المرض اللعين، أو إثر التعرض لأزمة قلبية وإنسداد بالشريان الأورطي، أو جلطة بالمخ!
يحيى: يعني هي ماماتتش علشان كانت عيانة؟؟؟
أنا: إيه يا (يحيى) القرف ده؟؟؟ عموما تقرير الطبيب الشرعي هايبين أسباب الوفاة… ياللا إتكل على الله بأه… واد قفييييييييييل!!!
يحيى: ثانية واحدة… أومال هي ماتت إزاي؟؟؟ اتقتلت؟؟؟
هنا قرر (آدم) التدخل، حتي يزيدنا من الشعر بيتا، فأمسك بذقنه متفكرا هنيهة ثم قال: لا يا (يحيى).. دي ماتت محروقة، مش شايف لونها إسود إزاي؟؟؟
لبثا الاثنان مقدار دقيقة يحملقون في السمكة، ثم عادا إلى مكانهما لتناول الغداء باستمتاع.. يا ولاد الجزمة!!!!!!!!!!!!!
أصبح عبق الموت يفوح من حول السمكة النافقة ويملأ المكان والزمان والحواس، ويزكم الأنوف! ليت شعوري تجاه السمكة اللعينة يعود كما كان منذ دقائق.. لكن هيهات!
تملكني شعور مركب بالغ التعقيد.. جوع وتقزز وحنق وغيظ وجوع تاني!!! وقررت الانتقام.
ذهبت إليهما، ووقفت بجوارهما أثناء تناول المكرونة، وقلت: طب لعلمك بأة أنت وهو.. اللحمة المفرومة اللي في المكرونة دي أصلا مش لحمة!!! دي بقرة.. بقرة ميتة ومدبوحة ومقتولة.. ومفرومة كمان!!! هيه!!!!
تبادلا نظرة سريعة، ثم أصدرا ضحكات عالية كثيرة، وأكملا غدائهما بشهية.
يا كفرة ياللي متعرفوش ربنا!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
هي الكحكة في إيد اليتيم عجبة!!!!!!!!!!!!!!!!!!
أما أرجع آكل المرحومة قبل اما تتحلل!!!!!!!!!!!!
( شوربة يا لينا… شوربة يا ماما… الفرخة ترميها في أوضة مليانة ميا، الميا تبقي شوربة! إخس عليكي!!!)