كان أبي يصف المرض دوما بأنه أقسى شكل من أشكال انتهاك حقوق الإنسان، فهو -والكلام مازال عن لسان أبي- يسلب الإنسان أبسط حقوقه البديهية والأصيلة مثل حقه في العمل، والتنقل، والحركة، والتفاعل الاجتماعي، والمساواة، بل وحقوقه الأساسية التي تضمن بقاءه وديمومته، والأهم من ذلك كله والأكثر إيلاماً، أن المرض في أحيان كثيرة يسلب الإنسان حريته.. التي هي أعز ما يملك.
هكذا هو المرض بشكل عام، أما في حالات الأمراض \”المحرجة\”، فيمكنني أن أزيدك من الشعر بيتا، واقول بضمير مطمئن أنه يسلب الإنسان خصوصيته و كرامته الإنسانية.
ولأن حقوق الإنسان ترتبط في مجملها رتباطا وثيقا بكرامة الإنسان، فيمكن أن نصل عن طريق استدلال منطقي بسيط أن \”البواسير\” هي قطعا شكل جلي من أشكال انتهاك حقوق الإنسان، وعلى أكثر من مستوى.
فنجد أن المعاناة \”الكبرى\” لدى مريض البواسير، هي حرصه الحثيث على تحمل آلامه المزمنة في سرية وصمت، حتى لا يفتضح أمره، وتتكشف حقيقة مرضه المحرج، وهذا التكتم هو جوهر التجربة البواسيرية ومأساتها!
شاء القدر أن يصاب أحد الأصدقاء بهذا المرض المؤلم والسخيف، وبقدر تعاطف الجميع مع حاله المؤسف، إلا أن إبداء أي نوع من أنواع المواساة أو حتى مجرد الإشارة إلى مرضه من قريب أو بعيد يكون موترا.. ويتسم الحديث حوله عموما بالغموض والرمزية.
يجتمع لفيف من الأصدقاء والصديقات حول تلك المنضدة العملاقة بإحدى المقاهي، يتجاذب الجميع أطراف الأحاديث الضاحكة حينا والجادة حينا، يسود الأجواء هدوءا نسبيا مفاجئا يتزامن مع سؤال أحد الأصدقاء (فلنسمه علي)، الذي شق الصمت بقوة صوته متسائلا: هو فين (محمد)؟ ماجاش ليه؟
يجيب أحد الأصدقاء (فلنسمه أحمد) قائلا: أظن قال إنه وراه حاجة
علي: ممم ماشي، كنا عايزين نشوفه!
ثم صمت هنيهة، واعتدل قليلا في جلسته واضعا رجلا على الأخرى واستدرك قائلا بصوت أسيف وواضح: إنت عارف إن عنده بواسير؟
كان السؤال كفيلا بأن يجبر الجميع على التجمد اللحظي، والتوقف عن الأحاديث الجانبية، بل وعن احتساء المشروبات، وأعاروا كامل إنتباههم إلى (علي) وقصته الواعدة.
أحمد (متفاجئا): إيه؟
علي: بواسير يا ابني.. آه والله عنده بواسير جامدة.. مسكين، شكلها فظيع!
(شكلها فظيع).. الجملة التي سلبت لب الجمهور، وجمدت بصره على الراوي، وطرطقت آذانهم من أجل المزيد.
أحمد (مذهولا): شكلها؟؟؟؟؟؟؟؟ أنت شفتها؟؟؟؟
علي (بأريحية مريبة): آه يا ابني شفتها.. وراهالي، حاجة صعبة أوي!
لقطة واسعة على الجميع، وقد عقد الحوار ألسنتهم، وبعضهم فاغرا فاه، والبعض الآخر يوشك فكه السفلي أن يرتطم بالأرض!
أحمد (لا زال مذهولا): وراهالك؟! إيه يا جدع الكلام ده؟! (يختلس نظرة سريعة إلى الأصدقاء والصديقات، ثم يعود وينظر إلى علي، ويقول مستنكرا): وراهالك فين؟!!
علي: في الجامع، وإحنا بنتوضا قبل الصلاة.
أحمد: في الجامع؟!!
علي: آه يا ابني.. صعب عليا أوي بجد، شكلها فعلا وحش أوي، وبعدين ملمسها مزعج كده!
أحمد: ولاااه؟! إنت اتجننت؟!! ملمسها ده إيه يا ابني أنت؟!
علي: آه والله زي ما بقول لك.. ياللا، ربنا يشفيه!
ويشاء الستار الحليم أن يلهم (أحمد) بحقيقة القصة المريبة، فيتذكر حديثا سابقا مع (محمد) المريض، ويلملم الخيوط، وتنقشع الغشاوة عن أسوأ حالة سوء فهم حدثت في تاريخنا المعاصر!
أحمد (متفكرا): شكلها فظيع، شفتها في الجامع، وراهالك وهو بيتوضا، ملمسها مزعج!!!
ثم صاح قائلا: يكونش قصدك الدوالي يا منيل؟؟؟؟؟
علي (متفاجئا): أيوة يا ابني.. أمال أنا باقول إيه من الصبح؟ عنده دوالي فظيعة!!!
الجمهور صارخا بصوت واحد: لأ.. قلت عنده بواسير!!!
الصدفة نادرة الحدوث، أن الراجل عنده فعلا بواسير ودوالي!!!
القعدة دي بأة ماكانتش انتهاك لحقوق الإنسان بس.. دي كانت هتك عرض!!
أسترها معانا ياااااااااااااا رب!!!