سارة مصطفى تكتب: بين "1984" و"فهرنهايت 451"

في السابق، كانت القراءة وسيلتي للهرب من الواقع، الواقع الذي لا ينتصر الخير فيه أبدا في النهاية، الواقع حيث الخيرين قلة والسيئين كثرة، الواقع الذي يقتل الأمل، يسحق الأحلام، ويزهق أرواح الطيبين، فيشعرك بالوحدة أكثر يوما بعد يوم.

بالرغم من محاولات الهرب هذه، لكن يبدو أن الواقع رفض أن يترك جزءا من الحياة دون تنغيص، فأخذ يفرض نفسه على ما اقرأ، يظهر في الكلمات، بين السطور، وفي وجوه الشخصيات، فترى التشابه بين صراعاتك وصراعاتهم، بين أحاديث نفسك وأحاديث نفسهم، وبين أحلامهم وأحلامك.

قرأت منذ فترة رواية \”1984\” لجورج أورويل، وهذه الرواية تحكي قصة تحول \”وينستون\” من شخص متأكد من أن 2 + 2 يساوي 4 إلى شخص مستعد بأن يعتقد أن الناتج قد يكون 5 أو 3، إذا قالت له السلطة ذلك.. من شخص كاره معارض للنظام إلى مؤيد محب عن طريق التعذيب.

كان \”وينستون\” يظن في البداية أن البضع سنتيمترات الموجودة في رأسه هي ملكه، وأن السلطة مهما راقبته وتتبعته وغيرت ما حوله، إلا أنها ليس لها تأثير على ما يعتقده.

المرعب في الأمر أنه يكتشف أن ذلك ليس حقيقيا وأن السجون والتعذيب -أحيانا- تغير الأفكار، وأن سلطان الحكومات قد يكون أعمق مما تتصور، فقد استطاعت \”وزارة الحب\” -كما أطلق عليها أورويل في الرواية- أن تجعل \”وينستون\” يغير قناعاته عن طريق تعريضه للتعذيب الشديد.

يقول أحد قراء هذه الرواية: \”كان من المفترض أن تكون تحذيرا لنتجنب ما حدث فيها، وليس كتيب إرشادات نطبق ما جاء فيه\”

بعد أن أنهيت \”1984\”، قررت أن أقرأ \”فهرنهايت 451\” من تأليف راي برادبوري بناء على ترشيح موقع جود ريدز.

تتناول الرواية قصة \”مونتاج\” رجل إطفاء، في وقت يكون عمل هؤلاء أن يوقدوا الحرائق لا أن يطفئوها، وضحاياهم هي الكتب.

هنا \”مونتاج\” جزء من السلطة، ولكن بمساعدة فتاة من جيرانه، يبدأ في قراءة بعض الكتب، مما يضعه في صراع داخلي ينتهي إلى أنه يجب أن يتوقف عن عمله هذا، بل وإنه يجب عليه أن يحدث تغييرا ما.

تكون النتيجة أنهم يأتون للقبض عليه، فيهرب ويصبح مطاردا.

تنتهي الرواية بأنه يلجأ لأطراف المدينة، حيث يجد آخرين قرأوا كتبا أيضا، واضطروا إلى الفرار من السلطات مثله.

يخبره هؤلاء بأنهم قرروا البقاء هنا وأن يحافظوا على ما لديهم، وينتظروا حتى يكون الوقت مناسبا ويكون العالم مستعدا لينقلوا ما في رؤوسهم إلى الورق مرة أخرى.

هاتان الروايتان أكدتا لي أننا لا نقرأ فقط المحتوى، بل نقرأ واقعنا من خلال المحتوى، ونقرأ المحتوى من خلال واقعنا.

بدأ \”وينستون\” كمعارض للسلطة وانتهى كمؤيد لها، أما \”مونتاج\”، فبدأ كجزء من السلطة وانتهى كمعارض لها.

ظللت أطبق الروايتين والشخصيتين على ما يحدث من حولي، وعلى بعض الشخصيات التي أعرفها.

بعد أن أنهيت الروايتين، طرحت العديد من الأسئلة على نفسي، ماذا كنت لأفعل لو كنت مكان \”وينستون\”، هل كان ليتغير موقفي أيضا؟

ما مدى صحة هتاف \”عمر السجن ما غير فكرة\”، فهو لم يكن حقيقيا تماما في حالة \”وينستون\”؟!

أيضا، أصبحت أكثر شكا في صحة الأحكام والتصنيفات التي سبق وصنفت الناس إليها، فأنا لا أعلم المعارك التي يخوضونها، حتى وإن كانت معارك وصراعات داخلية بينهم وبين أنفسهم وأهوائهم، ولا أعلم من منهم من الممكن أن يتغير موقفه في المستقبل، ولا أعلم العقبات الموجودة في حياتهم، التي قد تجبرهم على أن يسلكوا طريقا ما، وهذا جعلني أدرك أنني ان كنت على استعداد لأن أتقبل هذا من شخصيات خيالية، فأغفر لهم المواقف التي لا أتفق معها، فمن باب أولى أن أحاول أن أتفهم الشخصيات الحقيقية، وأنني لست في حاجة أصلا لأن أصدر عليهم أحكاما من نوع ما.

أخيرا.. وبعد كل هذا، يظل أكبر سؤال شغلت به الروايتان عقلي هو، هل أتحول في يوم ما إلى \”وينستون\”؟ هل أفر مثل \”مونتاج\”؟ أم هل تنتهي قصتي بنهاية مختلفة عن كلتا الروايتين.. نهاية أخرى لم تكتب بعد؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top