ترصد رضوى عاشور من خلال رواية \”الطنطورية\” حياة الشعوب العربية واللاجئين الفلسطينين من خلال حكايات امرأة عربية وجدت نفسها عن طريق الصدفة على قيد الحياة جزءا من السقوط، في مزج باهر يجمع أحداث الحروب العربية منذ سقوط القدس حتى سقوط بغداد (1948-2003).
منذ اللحظات الأولى للرواية تأخذك رقية الطنطورية إلى حكايتها في سرد مدهش، ولغة شاعرية. تحكي من خلالها حكايتها.
\”هل أحكي حياتي حقـًّا أم أقفز عنها؟ وهل يمكن أن يحكي شخص ما حياته فيتمكن من استحضار كل تفاصيلها؟ قد يكون الأمر أقرب إلى الهبوط إلى منجم في باطن الأرض، منجم لابد من حفره أولا قبل التمكن من النزول إليه. وهل بمقدور فرد مهما بلغ من قوة ونشاط أن يحفر بيديه المفردتين منجما؟! المهمة شاقة تتولاها أيدٍ كثيرة وعقول وروافع وجرافات ومعاول للحفر، وأخشاب وحدائد ومصاعد تهبط إلى الباطن تحت أو تُعيد من نزلت به إلى ظاهر الأرض. منجم عجيب غريب يتعين عليك النزول إليه مفردًا لأنه لا يخص سواك وإن وجدت فيه ما يخصهم، ثم إنه قد يسقط فجأة على رأسك، يكسرها أو يطمرك كاملاً بركامه. وربما كان الأمر أشبه بصرّة لا منجم، ولكن هل يمكن أن يصر شخص ما حكايته في منديل ويمد به يده إلى الآخرين قائلا: هذه حكايتي، نصيبي من الدنيا؟ كيف تَنْقُلُ صُرَّة بحجم الكف أو صُرَّة كبيرة كتلك التي تحملها النسوة على رءوسهن وهنّيشردن شرقًا عبر الجسر، حكاية عمر بكامله، مشتبكٍ بطبيعة الحال مع أعمار الآخرين\”.
لعل صورة رقية وهي تجري في الطرقات وهي شعثاء غبراء لا تصدق خبر الاغتيال، وكأن حلم العودة هو الذي ضاع منها وليس اغتيال أحد قادة المقاومة. هي صورة تصف حال الأمة العربية، وتصف الانتظار. تقول رقية:
\”كان يقف على محطة القطار ينتظر الركوب عائدا من حيث أتى، فأي عبث مطالبته بتسجيل وقفته والحصول على بطاقةِ هويةٍ للانتظار؟!
الانتظار.
كلنا يعرف الانتظار.
أن تنتظر ساعة، يوما أو يومين، شهرا أو سنة أو ربما سنوات. تقول طالت، لكنك تنتظر. كم يمكن أن تنتظر؟ حكت لي مريم عن المرأة التي انتظرت زوجها عشرين عاما. قلت لها احكِ لي أكثر. قالت: هذه حكاية معروفة في الأدب القديم. ذهب الرجل إلى الحرب. ودامت الحرب عشر سنين. وفي طريق عودته ضاع. من الذي ضاع.. شدتني الحكاية، لكنني قلت لنفسي إن الحكاية ناقصة، ليس هكذا الانتظار، فهو ملازم للحياة لا بديل لها. تنتظر على محطة القطار، وتركب في الوقت نفسه قطارات تحملك شرقا وغربا وإلى الشمال وإلى الجنوب. تخلّف أطفالا وتكبرهم، تتعلم وتنتقل إلى الوظيفة، تعشق أو تدفن موتاك، تعيد بناء بيت تهدَّم على رأسك، أو تُعّمِّر بيتا جديدا. تأخذك ألف تفصيلة وأنت وهذا هو العجيب، واقف على المحطة تنتظر.. ماذا تنتظر؟ ما الذي تنتظره رُقَيَّة على وجه التعيين؟ حكاية غير قابلة للتلخيص. ثم ما وقع الخوف من وقفة الاتنظار؟ الخوف المُضْمَر كمياة جوفية مقيمة في الصحو والمنام، والخوف الصريح لحظة ترتج المدينة فجأة. دقائق ثم تنتبه أن البناية التي تحوَّلت إلى ركام يتصاعد منه اللهب والدخان، بصدفة غير مفهومة، هي بناية الجيران لا البناية التي تسكن أنت فيها … حكاية غير قابلة للتلخيص\”.
ترسم رضوى عاشور ملامح مدينة الطنطورة، وعين غزال، والصفورية، والقرى الفلسطينية الأخرى المخفي أثرها في حكايات الأجداد، مازجة بين الخيال والواقع، فروايتها تحمل بين جنباتها حكايات غسان كنفاني، حياته وموته، واغتيال أنيس صايغ، وناجي العلي الذي تراه طفلا يرسم على الجدار، والأمهات اللواتي يحطن رقابهن بمفاتيح الدور، في انتظار لحظة العودة.. الأغاني الفلسطينية ورقص وصال ومريم على أنغام الدلعونا، اﻷوف، الميجنا.. والأهازيج الفلسطينية.
إنها رواية الذاكرة العربية التي ترصد ملحمة الشتات، الطنطورية ذاكرة المرأة العربية تعزف بوتر الحزن على القلوب التي لم تعرف يوما طعما للراحة أو الانتصار، فرقية من لجوء إلى ترحيل، يتنازعها الهم الفلسطيني، والهم العربي، وحلم القضية الضائع بين الشتات. تقول رقية في نهاية الرواية:
\”أين ذهبت المرأة التي كانت تجلس جواري؟ متى جلس هذا الصبي مكانها؟ كان يتطلع في بعينين واسعتين.. انتبهت إلى وجوده فتطلعت.. فتح دفتر رسم كبير.. قال:
– أردت أن أُطلِعَكِ على صورتك.
– صورتي أنا؟
– رسمتها ونحن هناك؟
– أنت رسام؟
– أرسم.. مازلت تلميذا في الصف الثاني الإعدادي.
سكت.. واصل:
– وأعمل أيضا.
– ماذا تعمل؟
– أجمع برتقالا في موسم البرتقال. أجد الزيتون في موسم الزيتون.. أساعد في أعمال البناء أحيانا، وأحيانا أبيع كعكا على الرصيف.
– تساعد والديك؟
فتح الدفتر.. في الرسمة سلكٌ شائك وحشد من بشر على جانبيه.. تتصدر الرسمة امرأة بثوب فلاحي ترفع ذراعيها عاليا، تحمل طفلة في الأقمطة على وشك أن تُحمِّلها لشاب في الجانب المقابل من السلك يرفع يديه باتجاه الطفلة.. على صدر الطفلة مفتاح كبير عتيق يغطي ثلثي جسمها.. الخلق على جانبي السلك كلهم طوال، خطوط فارعة تميل خفيفا على كل جانب في اتجاه الجانب الآخر كأنها تلتقي في تعريشة توشك أن تكوِّن قوسا.. قلب الصفحة.
– هذه رسمة ثانية رسمتها لك وأنتِ نائمة.
خطوط قليلة بالفحم تستحضر الشبه.. الوشم تحت الأنف واضح كأن الغجرية دقته قبل يوم أو يومين.. الشعر المعقوص خلف الرأس صار في الرسمة جديلتين، وهنا أيضا ألبسني الولد ثوبا فلاحيا.. قلت:
– لماذا رسمتني مرتين بثوب فلاحي، ولماذا صرتُ بجديلتين؟
هز كتفيه:
– لا أدري. هكذا رأيتك.
– لم تقل لي اسمك.
– ناجي
– من أين أنت يا ناجي.
– من عين الحلوة.
– أعرف، لكن أصلًا من أين؟
– من الجليل الأعلى.
سمعت أحدهم يقول وصلنا.. فتحت عيني.. كان الباص توقَّف وبدأ ركابه يغادرونه.. نزلت وسلمت على أخوات كريمة ومن تعرَّفتُ عليهم في الرحلة، بعد أن تواعدنا على لقاء قريب.. أوقفت سيارة أجرة حملتني إلى البيت. بين النوم والصحو على سريري يلتبس عليّ الأمر.. أقول هل ناجي يجلس بجواري أم كان طيفا في المنام؟ هل أجده صباح الغد في عين الحلوة؟ سأنام لأصحو مبكرا وأذهب إلى المخيم لأبحث عن ناجي وأتأكد أنه هناك\”.
تنهي رضوى عاشور روايتها على وعد باللقاء والبحث، وكأنها تبحث عن الحل داخل طيات الأمل المتولد من رؤية الطفل المدافع عن القضية، ما ضاع حق وراءه مطالب مهما طال الزمان.