كما هي العادة تبدأ الحكايات بحدث تتطور معه الأحداث.. مجموعة من البشر قررت أن تقف في وسط ميدان ما.. تهتف بقوة، وتزلزل الأرض. كتلة بشرية متحركة، تكافح بكل طاقتها، وتسعى لأهداف معينة، وتبذل من أجلها كل غال.
تزامن وقت الثورة مع بداية مرحلة جديدة في حياتي، حيث كانت بداية الرحلة مع رضوى عاشور، أبحث داخل أعمالها عن حيوات العامة، كيف تؤثر الثورات عليها، وكيف ترى هي الثورة؟!
من خلال القراءة تأكدت (أننا) نحمل الثقل الأكبر من الحكاية؛ هذا الشباب الذي ينازع بين أحلامه ورؤيته لبلاده. بدأت رحلتي الجديدة بالتنقل بين عوالم الروايات، والغريب في الأمر أنني وجدت بعد بحث، أعمالا مختلفة تحكي حكاية واحدة، وتصادف أن وقعت في يدي رواية \”سراج\”، ومن هنا كانت الإنطلاقة لعالم أكثر رحابة واتساعًا لدهشتي ورهبتي من تفاصيل الحكاية وهي مرسومة على الورق!
حكاية الثورة:
عرفت الثورة التي يتخلى فيها جموع الناس عن الثائرين، ويحكي كل حكاية واحدة من وجهة نظره، روايات عدة تكون حكاية الثورة.
في كل يوم كنت أشاهد الحكاية وهي تتكون، كيف يمكن لتلك الأحلام الغضة أن تموت رغم نبلها، كانت الصورة واضحة منذ البداية ولكن لا مفر من التجربة وإعادة الكرّة، أتذكر حكاية الفراشات الثلاث في الدومينيكان، كيف تحررت البلاد وتجردت من استبدادها بالنساء، كيف استطاعت الفتيات الصغيرات أن يكبرن وينتزعن حق الأب، كان الوعي هو السلاح الأقوى في تلك المعركة.
أحلام الربيع الغضة!
لا أحد يحكي عن الانكسار، رغم أني لا أعرف من الثورة سوى كسرتها لنا ولأحلامنا! صغارا كنا نحلم بالمستقبل والأحلام تغذينا بالإرادة التي تحركنا. نملك من الأحلام رصيدًا يكفينا لنهاية سعيدة ترضينا ونحن نسترجع الذكريات على فراش المرض، ولكن حتى هذا التصور لم يعد متاحا لنا الآن!
أتذكر في يوم معركة الجمل اتصال أحد الأصدقاء، كانت المحادثة صادمة وأنا لا أفهم أي شيء سوى ما قرأته وشاهدته على التلفاز عن الثورات، كان الموت يحلق في الأفق ويضرب بجناحيه كل أحلامنا، كنت لا أفهم ما يحدث، لأن الأمر مربك، لأول مرة نفهم أبعاد المسألة والحقيقة الوحيدة الثابتة والغائبة عن وعينا، أننا نكرة! غير موجودين، ولا يهتم لأمرنا أحد، بعبارة أوضح نحن عبيد العصر الحديث، مكبلون بكل شيء يحيط بنا، وموتنا لا يعني لأحد شيئا، موتنا لا يعني سوى الأهل والأهل فقط.. هكذا ببساطة!
رضوى وآمنة وسعيد:
يقول مريد البرغوثي عن زوجته: \”رضوى عاشور سيدة قليلة الجسد، يتعبك تتبع خطاها، تهدم السور الفاصل بين الجامعة وعموم الناس، تظنها على مرتفعها الأكاديمي فتراها على أسفلت الميدان ذائبة في تدافع التحرير العظيم، الكدمات التي توجعها توجع الطاغية قبلها، تظنها في همس القصيدة وهدأة الإيقاع، فتراها في صرخة التاريخ الخارج توا من يد القابلة وأرحام الشوارع، وتظنها في شوارع وسط البلد فتلقاها في غيوم غرناطة، وتظنها تجلس مع أبي جعفر تجلّد الكتب بخطوط الذهب، أو تدبر الحيل المذهلة مع مريمة، فتلقاها تأخذ بيدك إلى شاطئ الطنطورة وتقول لك: ضع قلبك هنا، ودعه هنا، وارم غدك من هنا، كي تعود إلى هنا، إلى الساحل الأول\”.
على بعد آلاف الأمتار من تلك الساحل الأول، كان الخوف يسكن كل التفاصيل. كنت أرى آمنة وهي تقف على الشاطئ تبحث عن ابنها سعيد، كنت أشعر بقلقها وهي تنتظره في الليل وتخشى عليه.
في الليل كنت اتقلب في نومي وأنا أصرخ وأجري من خوف مرعب لا أعرفه يزور أحلامي، كان الحلم ينتهي على آذان الفجر، وفي كل ليلة يتكرر، لا نهاية للصراخ الذي يطاردني في نهاري ويؤرق مضجعي. ذات ليلة صادفني حلم غريب، كنت هناك في الميدان وسط جموع من البشر نصلي خلف إمام أميز صوته لكني أجهل من يكون، لم يسع الحلم لتلك التفاصيل، هناك حيث وقفت أصلي على الشهداء في مشهد مهيب لا يغيب عن ذهني كلما تذكرت الحلم، تسقط الناس من حولي بموت مفاجئ جاء يحصد بلا كلل، في الصباح تطايرت!
في الأحلام كان السندباد يزور سعيد، تكرر الحلم بطريقة عجيبة، حكى من رآه لعمار، كان يتعجب من رؤياه، كيف لذلك الشيطان الذي يتوسد رأس السندباد أن يسيطر عليه إلى النهاية، القصة الأصلية تحكي انتصار السندباد، والحلم يحكي سيطرة العجوز على الصغير! توقف عمار عن الكلام وشعر بأن هناك غصة تقف في حلقه وقبضة تعتصر قلبه، حوقل وبسمل في داخله وتمنى الخير لسعيد وللجميع، وأخذ يقاوم الشعور المخيف الذي انتابه.
آمنة والبحر
(1)
كنت أقف على شاطئ مهجور لا يسكنه سوى الحزن، هنا حيث جلست آمنة تجمع شتات الذكريات، تنظر إلى النجوم، تعد الآثار، وتبحث عن ابنها وسط الأجساد والأجواء المغلفة بالموت والرهبة.
هنا حيث يذهب الرجال للبحر، يذهبون ويعودون، ويذهبون ثم لا يعودون أبدا، فتخرج النسوة للانتظار وقد يبّس الخوف أكتافهن وحفر أخاديده في وجوههن. ذات صباح غائم شاهدت آمنة كل شيء. يا إلهي.. ما كل هذا الحزن؟ كيف يحتمل القلب ليل كهذا؟ أما لهذا الليل من نهاية!
(2)
يقولون إن البحر كريم وهي تخشى غدره ولكنها أبدا لا تفصح بل تكذب حتى على قلبها. وتكذب على عمار. أهو القادم من بعيد؟ أخبرني يا عمار أهو سعيد؟ تنادي على المسافر البعيد، تقول: \”صبي في الرابعة عشرة اسمه سعيد وأبوه عبد الله وأمه آمنة. وجهه أسمر وشعره أجعد وعيناه خضراوتان وتحت حاجبه الأيمن ندبة قديمة. كان يلبس جلبابًا أبيض ويتحرز بحجاب بحجم نصف كفّي؟\” لا يجيب البحار.
(3)
يقول عمار: \”أتدرين يا آمنة أنك تشبهين أمك كثيرا\”.. تجيبه في شرود وهي تبحث في الأفق عن شبح ابنها الغائب: \”نعم.. نعم..\” يبدو أن سعيد سيتأخر في هذا الرحلة، أعلم أنه قادم عما قريب ويشتاق لأمه.
(4)
يا بحار \”اسمه سعيد وأبوه عبد الله الغواص وأمه آمنة الخبازة\”.
– يقول محمود: \”يا بختك يا عم، تركب السفن وتطوف البلاد وترجع كما السندباد تسكن في قصر وتدعو أصحابك وتقيم لهم الأفراح والليالي الملاح!
– ومن هو السندباد؟
– ألم تسمع عنه وعن الشاطر حسن؟
– لا
– ولا عرابي؟!
(5)
الآن أتذكر كيف كانت \”الهوجة\” تعم أرجاء الإسكندرية، الجرجى والقتلى في كل مكان. تضرب سفن الإنجليز المدينة وكأنها في نزهة استعراضية، تتجمع ثلاث سفن كبيرة في نظام هندسي وتوجه مدافعها نحو الطابية، ثم تنسفها بكل دقة، ترد الطابية، أو من بقى حيا فيها.
في هذا التوقيت يصرخ أحد المارة، هذه مجزرة وليست حربًا، هزم سعيد/عرابي، وانتهت الحرب.
بعد سنوات عدة من تلك الواقعة، يتكرر المشهد ولكن تختلف الأوجه والأقنعة، والعجيب أن تتكرر الحكاية وآمنة هناك تجلس على الشاطئ تُجمّع أشلاء نفسها وما بقي من جسد ابنها، وهي تحكي حكايتها التي لا تمل من سردها وتبكي على من رحل.