زين العابدين خيري يكتب: متونسة بحس مين يا مصر في غيابي؟

ربما كانت تجربة الأبنودي مع الاعتقال والتي استمرت أربعة أشهر تقريبا في سجن القلعة في العام 1966، ربما كانت أقل قسوة مما شهده آخرون من جيله ومن الجيل الذي يسبقه، والذين تعددت فترات اعتقالهم وطالت سنواتها، كالشاعر الكبير والد الشعراء فؤاد حداد، وكالفاجومي الراحل أحمد فؤاد نجم، وغيرهما من الشعراء والأدباء والمفكرين الذين دفعوا ثمنا غاليا لمواقفهم الوطنية المعارضة للسلطات المتتالية في مصر فخاضوا تلك التجربة المريرة لمرات.

لكن وعلى الرغم من ذلك فإن وصف الأبنودي لمشاعر المعتقل المظلوم لم يكن الأقل بين هؤلاء، بل بالعكس ارتقى الخال بذلك الشعور المرير إلى الحد الذي جعل تلك التجربة الأليمة تنضح شعرا خالصا، ففي بعض قصائد المعتقلين السياسيين وكتاباتهم الأدبية كانت الحماسة والرغبة في الانتقام من السجان أقوى من الشعر أحيانا، ولا أقصد حداد ولا نجم بالطبع، بل لا أقصد المقارنة من الأساس، لكني فقط أشير إلى نتاج الأبنودي الشعري من تلك التجربة، والتي صاغها مرارا في قصائد عدة تم غناء بعضها دراميا في الإذاعة والتليفزيون والسينما.

ولذا لم يكن غريبا أن يسقط الأبنودي مشاعر تجربته الشخصية على الأشعار التي كتبها لمسلسل \”النديم\” بالتحديد والتي صاغها ألحانا شجية باقتدار الراحل عمار الشريعي، وغناها علي الحجار، الذي يعد الضلع الثالث للأبنودي والشريعي في مسلسل الإبداع الدرامي.

يحكي مسلسل النديم قصة الثورة العرابية من خلال قصة حياة أحد أبطالها وهو الشاعر والأديب وخطيب الثورة عبد الله النديم. وكان ذلك المسلسل فرصة عظيمة للأبنودي ليصف شعرا كل مرارات العيش في وطن مسروق ومسلوب الإرادة، تم تسليمه بأيدي حكامه للاحتلال، وصار وطنيوه وأبطاله الحقيقيون ما بين مساجين ومنفيين ومطاردين، وعلى الرغم من ذلك لم يكره هؤلاء الأبطال الوطن بل آمنوا بأن كل معاناتهم ما هي إلا أقل القليل لهذا الوطن، فلحب الأوطان حلاوة أقوى من كل مرارات الظلم الذي تعرضوا له..

يقول الأبنودي في تتر بداية \”النديم\”:

يا لولا دقة إيديكي ما انطرق بابي

طول عمري عاري البدن وانتي جلبابي

ياللي سهرتي الليالي يونسك صوتي

متونسة بحس مين يا مصر في غيابي؟

فما أروع الشعر حين يصف بهذه الدقة مشاعر العاشق المضطرب ما بين عشقه وما بين ألمه بسبب هذا العشق، وما أروع تلك الصورة التي توضح شعور النديم بفضل مصر عليه، لكنه فيما يشبه العتاب والشوق معا يسألها عن أحوالها وعمن يمكنه أن يملأ ذلك الفراغ الذي تركه مرغما.

في الزنزانة وعنها وعن السجان وشعوره نحوه يقول الخال على لسان نديمه:

من عشقي فيكي يا محروسة يا إنسانة

لا كرهت سجنك ولا كرهتني زنزانة

زنزانتي لو أضيق..

أنا من ورا السجان

في العتمة باتشعلق..

حتى على الدخان

كيف بهذه البساطة يا أبنودي أوصلت لنا مشاعر الوطني السجين الذي يتناسى كل آلامه الشخصية أمام عشقه للوطن حتى لو خنق هذا الوطن حربته وكبلها سجينا في زنزانة ضيقة؟! وهو على الرغم من ذلك لم يفقد خيط الأمل الذي يتعلق به حتى وهو يعلم أن هذا الخيط ليس إلا دخان.

وأغني بدموعي..

لضحكة الأوطان

الأبنودي وصف قبلها وفي قصيدة أخرى شعور الحر بالسجن قائلا:

محبوس يا طير الحق

قفصك حديده لعين

قضبانه لا بتنطق

ولا تفهم المساجين

قضبانه لا بتعرف

ولا تفهم الإنسان

ولا الحديد ينزف

لو تنزف الأوطان

ولم يكن غريبا أن يستعيد الأبنودي والشريعي تلك الكلمات نفسها بلحنين جديدين في فيلم \”البريء\” مع العظيم الراحل أيضا عاطف الطيب، للتعبير عن تجربة سجين وطني مظلوم آخر وما أكثرهم في هذا الوطن، خصوصا في تلك الفترات المضطربة التي تختلط فيها الأوراق فلا نعرف من هو البريء من عدو الوطن الحقيقي، بل لا نعرف السجين من السجان، والأهم هو الإجابة عن السؤال لماذا؟ وهو ما عبر عنه الأبنودي بدقة قائلا:

يا قلوب بتنزف دم في العتمة

يا قلوب بتنزف دم وتغني

سجنونا قاصدين يسجنوا الكلمة

والكلمة غصب عنها وعني

طلعت من القضبان وم الأسوار

لست هنا بصدد الحديث عن أغاني مسلسل \”النديم\” أو فيلم \”البريء\” أو قصائد وأغاني الأبنودي في الأعمال الدرامية كلها، لأنني سأحتاج أضعاف تلك المساحة، لكنني فقط أشير لقدرة الأبنودي الفائقة على نقل آلام وأوجاع السجين المظلوم الذي لم يرتكب جرما إلا محبة وطنه، وكما قلت في البداية إنه وضع خلاصة تجربته في المعتقل في هذه القصائد، فبدا وكأنه قضى عمره كله خلف القضبان، وأعلم يقينا أنه لم يكن يحتاج هذه التجربة ليصفها بهذه الدقة وهذا الجمال والشجن، لقدرته العظيمة على تمثل جميع الأبطال الدراميين الذين قدمهم شعرا في جميع المسلسلات التي كتب أشعارها، فهو \”أبو العلا البشري\” بشحمه ولحمه كما تخيله العظيم أسامة أنور عكاشة، وهو المنهوش من \”ذئاب الجبل\”، وهو ابن تلك البيئة التي غنت \”بيبه\” في\”عرق البلح\”، وهو \”الكومي\” وهو \”شيخ العرب همام\”، وهو الولد الذي بكته فؤادة في \”شيء من الخوف\”، وهو خير من كان يستطيع أن يصف لنا \”ضحكة المساجين\”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top