\”الحب\”، بصعوبة شديدة نطقتها \”أليس\” وكأنها طفلا صغيرا يتهجّأ كلمته الأولى في الحياة، مختتمة بها الفيلم الإنساني الجميل \”Still Alice\”.
\”الحب\”، الكلمة التي أجابت بها الأم \” أليس هولاند\” (جوليان مور) على ابنتها (كريستين ستيوارت) حين سألتها عن رأيها في النصّ الذي قرأته عليها للتو، والذي لم تُبد تجاهه أية تعابير على وجهها تدل على أنها فهمت شيئا منه، باستثناء نظرات دامعة ساذجة، ولكنها في الوقت نفسه حانية دافئة، متمسكة -ربما- بتلك النظرات وبتلك الكلمة \”الحب\” بآخر خيط يربط بينها وبين تلك الحياة الرائعة التي كانت، والتي عاشت خلالها خمسين عاما لم تعرف خلالها إلا النجاح والتفوق، أُمًّا وزوجة وربّة منزل تستطيع أن تطبخ أصعب الوصفات ببراعة شديدة، وفوق كل ذلك كانت أستاذة لُغويّات ذائعة الصيت.
صحيح أن حياة \”أليس\” بدت عادية وأصاب فتور العلاقات بين أفراد أسرتها، بحكم الاختلافات الطبيعية في الطباع والطموح، ولكنها كأم قوية ظلّت قادرة على الإبقاء على أكبر قدر من المقوّمات التي تجعل تلك الأسرة متماسكة، وظلّت تحارب للحظة الأخيرة لتساعد أبنائها على النجاح في حياتهم الشخصية والمهنية، حتى ولو كان ذلك النجاح هو ما يرضي طموحها هي وليس طموحهم هم، ولكنها في كل الأحوال كانت تفعل ذلك بودّ شديد.
فماذا حلّ فجأة بتلك الرائعة؟ إنه \”ألزهايمر\” اللعين، ذلك الوحش الذي حوّل فجأة ودون مقدمات تلك الحياة -التي وإن بدت عادية بل وفاترة أحيانا- إلى كارثة إنسانية، غير مكتفٍ بالتهام ذاكرة \”أليس\” وذكرياتها بل بدأ يلتهم قوّتها وعقلها ونجاحها وحتى قدرتها على الكلام وهي التي كانت أستاذة فيه ووصلت في علومه إلى أعلى المراتب العلمية، ليتآكل في سرعة شديدة كل يربطها بتلك الحياة التي شيّدتها بمثابرة وتفاؤل وحب، وينهار بسرعة ذلك البنيان الصلب حجرا حجرا، مثيرا غبارا من المشاهد المتقطّعة التي تهبّ كل حين من ذاكرة \”أليس\” راسمة ملامح حياة تلاشت ولم يتبق منها في النهاية إلا كلمة \”الحب\”، ربما لتذكّرنا، بأنه مازال يوجد في الدنيا ما يستحق الحياة من أجله.
هذه باختصار قصة فيلم \”Still Aice\” الذي قدّمت فيه جوليان مور ما يمكن اعتباره أهم أدوارها في حياتها المهنية العامرة بالأدوار المهمة، لتثبت مع كمّ الجوائز الكبير التي اكتسحتها في طريقها إلى الأوسكار عن هذا الدور (25 جائزة، و14 ترشيحا) أنها قد صارت من أنضج ممثلات هوليوود في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ ذلك العام 2002 الذي قدمت فيه الفيلمين المهمين \”The Hours\”، و\”Far From Heaven\” واللذين نالت عنهما ترشيحين للأوسكار كأفضل ممثلة في دور مساعد في الأوّل، وأفضل ممثلة في دور رئيسي في الثاني، ولكن لم يحالفها التوفيق في الفوز بالجائزة عن أي من الدورين، مكتفية بشرف الترشّح، وهو الشرف الذي نالته أربع مرات قبل أن يتحوّل إلى فوز بالفعل بالجائزة الأهم في هوليوود في هذا العام 2015.
ويكفي تدليلا على ذلك النضج أن نقول إن جوليان في عامي 2012 و2013 حصلت على جوائز إيمي وجولدن جلوب وSAG لأفضل ممثلة عن دورها في الفيلم التليفزيوني \”Game Change\”.
وقد استطاعت مور في \”Still Alice\” تقديم كل مراحل تطور الشخصية بطريقة مذهلة، بداية من أداء دورها كعالمة لغويات ناجحة جداً، وكأم قوية ومثابرة ومحبة لزوجها وأبنائها وبيتها، ثم وفي المراحل الأصعب من الفيلم قدمت باقتدار كل مراحل المرض التي تمر بها الشخصية والتي جعلت التعاطف معها يصل إلى مداه مع المشاهد الأخيرة للفيلم؛ فجسدّت باقتدار تأثير فقدان الذاكرة على الحياة اليومية وعلى الحياة المهنية للشخصية التي تؤديها، في الوقت الذي تحاول فيه البقاء مثابرة قوّية رافضة للاستسلام، ومهما فعل بها المرض فإنها تستمر في التعامل معه بطريقة أكثر عملية، في مواجهة هذا الكابوس، محاولة أن تظلّ وعائلتها مترابطين معاً بينما تكافح للحفاظ على الإنسانة التي تعرفها، والتي يعرفها الجميع، تكافح بخوف وبقلب محطّم، ولكنها تصبح ملهمة لكل من حولها، حتى في مرضها.
قدّم واش ويستمورلاند وريتشارد جلاتزر، مخرجا وكاتبا سيناريو الفيلم، فيلما مباشرا ومؤلما وحزينا إلى حد كبير، وكانت معظم المشاهد من وجهة نظر البطلة الرئيسية، لإظهار الحالة النفسية والمزاجية للشخصية وتصرفاتها، ولكن أعتقد أنهما نجحا في مبتغاهما في تقديم فيلم إنساني راق وناجح ومخلص للرواية التي تحمل الاسم نفسه (Still Alice) للكاتبة ليزا جينوفا.
تبقى الإشارة إلى أن كريستين ستيوارت كانت موفقّة جدا في أداء شخصيتها الجافّة في ظاهرها في أغلب الأحيان إلى حد إظهارها فظّة وخصوصا في تعاملها مع أمها غير مدركة تماما الحالة التي أصبحتها تلك الأم، قبل أن تكشف عما يخبؤه ذلك الجفاء من مشاعر حميمية دافئة وحقيقية تجعلها الأقرب والأكثر التصاقا بأمها في أكثر لحظات مرضها صعوبة، ولتثبت أنها كانت ناذجة تماما ومدركة لأهمية هذا الدور الذي قد يعتبره البعض أقل من النجومية التي وصلت إليها مؤخرا مع النجاح الضخم لسلسلة أفلامها \”The Twilight Saga\”،