كان الولد مشروع نبي
ووالده شافه في المنام سجاد
كانت مشاعره مفتحة من يوم ما حست والدته بالطلق
سبق صحابه في كل حاجة
حتى في شعور الألم
ويخاف قوي على شكله في عيون الجيران
وبيتكسف ووشه يحمر بخجل وسط البنات
مشروع نبي يعني امتثال
للأوامر والنواهي والمذاكرة *
هكذا كانت طفولتي وطفولة أغلب أطفال جيلي من أبناء الطبقة المتوسطة، مشاريع أنبياء، لا يجب علينا فعل إلا ما يجب علينا فعله، تكفي نظرة/ زغرة واحدة من أم أو شخطة/ كحة من أب لتعيدنا إلى صوابنا على الفور إن مر على خيالنا فكرة الخروج عن الصراط المستقيم المكتوب علينا أن نسير عليه، وليس معنى ذلك أننا لم نكن نمارس تمردنا على الأقل في سرنا، بل إن بعضنا مسح خطه المستقيم بأستيكة، ولكني أتحدث عن العامة من أبناء الجيل، العاديين المطلوب منهم أن يحققوا المستحيل بأقل الإمكانيات، فيصبحوا أنبياء وإن بلا رسالة وبلا وحي وبلا داعي أصلا لكل هذا المجهود في القهر والكبت من كل هؤلاء الآباء والأمهات المؤسسين لذواتنا، الذين توارثوا القهر جيلا بعد جيل فحملوا الأمانة بصدق ليرموها بعد ذلك على أكتافنا بحجة أنهم يريدون منا أن نكون أفضل منهم، وهي الحجة نفسها التي توارثناها بدورنا ويقهر بها بعضنا أبناءهم ليصبحوا أفضل منهم، دون أن يفكروا للحظة في أن هؤلاء الأبناء سيكونون أفضل بكل تأكيد لو فقط تركناهم يحددون خطوط سيرهم بأنفسهم، ولا معنى لأن تكون مستقيمة أو حتى زجزاجا، المهم أن يرسموها بأنفسهم ولأنفسهم، أما الأنبياء فلم يعد لهم وجود، والوحي قد انقطع.
أظلم أبي كثيرا إن قلت إنه حدد لي أو لإخوتي شيئا، وأشهد أنه تركنا نحدد مصائرنا بأنفسنا، وأظلم أمي إن قلت إنها كانت مفترية علينا أو أنها لم تغرقنا بحنيتها حتى اليوم، بل بالعكس كان حبهما لي ولإخوتي بلا حدود، حتى في ممارسة الأوامر والنواهي، ولكنها الحياة وإمكانياتها التي أجبرتهما وأجبرت -ومازالت- أغلب الأسر المصرية على أن تربط نفسها وأبنائها في الساقية، ليتحول الجميع إلى ثيران معصوبة الأعين تصارع الفراغ ليصبح أبناؤها أطباء ومهندسين وضباطا ووكلاء نيابة، إلى آخر تلك القائمة السخيفة السمجة سماجة السؤال الأزلي؛ تحب تطلع إيه يا حبيبي لما تكبر؟
أحب أطلع القمر، هكذا أجبت والدي مرة، ولكنني فشلت للأسف وأصبحت صحفيا وكاتبا، وشاعرا على استحياء، وأعترف علنا بأنني لو عاد بي الزمن لحطمت كل البراويز التي خنقت نفسي بوضع نفسي فيها ولانطلقت وراء أحلامي في أن أصبح لاعب كرة أو ممثلا، مثلا، ولكنني خجلت أو جبنت، ليس خوفا من أهلي فلا ذنب لهم، ولكن بسبب تلك التربية الأولى وتلك الصورة الذهنية التي تم رسمها لي مبكرا، أو لربما توهمت أنها مرسومة لي، فوقعت في أسرها مختارا وكسولا فلم أستطع الانعتاق منها حتى اليوم، وحتى بعد أن أدركت تشوهها، وقد صرت زوجا وأبا كثيرا ما يضبط نفسه آمرا ناهيا لا ينفك يعدل خطوط سير ولديه معتقدا بذلك أنه يضعهما على الصراط المستقيم، فبئس الأب أكون، وبئس القهر والكبت، وبئس المناهج التعليمية الكثيفة وطرق التدريس العقيمة، وبئس الواجبات المدرسية الكريهة، ولتذهب القواعد الصارمة إلى الجحيم، فالأطفال ليس مطلوبا منهم إلا أن يكونوا أطفالا، يفكرون كالأطفال، ويلعبون كالأطفال، ويكبرون على مهل ليصبحوا بشرا أسوياء لا مشاريع أنبياء، وحتى لا يتذكر أحدهم يوما أنه جرى إلى والده حين رأى أقرانه يلعبون في الجنينة ليقول له منبهرا: بابا بابا، الأطفال أهم.
هكذا قلت لأبي، وهكذا خلد مقولتي في إحدى قصصه القصيرة، ربما لأتذكر دوما أنني لم أر في نفسي طفلا، بل مجرد صورة ذهنية بلا معنى لسوبر مان أو لمشروع نبي.
جزء من قصيدة \”مشروع نبي\” ضمن ديوان يحمل الاسم نفسه، دار ميريت 2014.