زين العابدين خيري يكتب: أحن إلى مسلسلات أمي

لا أنكر أنني مستمتع إلى كبير بما انتقيته من مسلسلات في هذا السوق الدرامي الرمضاني الثري، ولو كان الوقت يسمح لشاهدت عددا أكبر ولكنه شيء مستحيل بالطبع أن تتابع أكثر من ثلاثين عملا حتى لو تفرغت الأربع والعشرين ساعة لمشاهدتها، فما بالكم وقد طغت الإعلانات على المسلسلات إلى الحد الذي جعل وقت الإعلانات يتفوّق على وقت الأعمال نفسها بنسبة تصل في بعض الأعمال إلى 60٪ وأكثر. وقد حاولت إلى حد كبير أن يكون انتقائي للأعمال موضوعيا حسب خبرتي السابقة ومراهنتي على أسماء معينة من المؤلفين والمخرجين، وقد ربحت الرهان مع نفسي إلى حد ما، على الرغم من اعترافي بوجود أعمال ربما تكون أكثر تميزا مما انتقيته تركتها لأشاهد حلقاتها مجمعة (مشفيّة) من الإعلانات في وقت لاحق.

ولكني وعلى الرغم من هذا الاستمتاع الذي بدأت مقالي مشيرا إليه، مجاملة لاختياراتي على الأقل، فإنني لا أنكر أنني وبعد حلقتين على الأكثر من كل عمل فوجئت بنفسي أشعر بحنين كبير إلى تلك المسلسلات القديمة التي كوّنت وجداني في مراحل الطفولة والمراهقة والشباب، وهي ما قصدته من تعبير (مسلسلات أمي) في العنوان؛ ليس من باب موضة النوستالجيا المنتشرة هذه الأيام ولكنه حنين حقيقي إلى نوعية من المسلسلات لم تعد من أولويات صنّاع الدراما حاليا.

نظرة سريعة إلى أغلب مسلسلات هذا العام من غير المسلسلات الكوميدية ستجدها تتبنى تيمة التشويق والغموض وبالتحديد تسيطر عليها فكرة البحث عن الجاني، إن بشكل مباشر كما في مسلسلات استيفا وذهاب وعودة والكابوس، أو بشكل غير مباشر مكتفية بالصراع الشديد الذي لا يخلو من القتل والسرقة والإدمان، وهذا يظهر بوضوح في مسلسلات مثل العهد وتحت السيطرة ومريم وحواري بوخارست، وهذا في إطار المسلسلات التي تابعتها حتى الآن، وأعرف أن الأمر نفسه في مسلسلات أخرى لم يسعفني الوقت لمتابعتها مثل بعد البداية وظرف إسود وحق ميت وغيرها، ولم يفلت من هذه الدائرة مما تابعته حتى الآن إلا مسلسلا ألف ليلة وليلة بأجوائه الأسطورية، وبين السرايات بأجوائه الاجتماعية التي تقترب كثيرا من تلك المسلسلات التي أحن إلى مشاهدتها.

لم أقم بالطبع بحساب نسبة مسلسلات التشويق والأكشن إلى غيرها، ولا أقصد تقييما سلبيا للمسلسلات التي ذكرت أسماءها، بل بالعكس كما ذكرت سابقا فإنني سعيد بمتابعتها، للعديد من الأسباب التي سأذكرها حين أتحدث عنها بشكل أكثر تفصيلا.

اعتاد صناع الدراما مؤخرا على البحث عن كل ما هو غريب لإظهاره وتركيز الضوء عليه، على طريقة صناعة الأخبار أن الخبر ليس أن كلبا عض رجلا، ولكن الخبر ينتشر أكثر إذا عرفنا أن رجلا ما هو الذي عض كلبا، وهي بالطبع نظرية جماهيرية بامتياز، واستطاعت أن تجذب جمهورا جديدا من أجيال الشباب للدراما التليفزيونية، خصوصا مع انحسار سوق السينما الذي اعتدنا تقديم هذه النوعية من الدراما بها، وغزو الكتاب الشباب والمخرجين الشباب من خريجي معهد السينما لسوق الدراما التليفزيونية، بكل موضوعاتهم المعاصرة وأدواتهم وتقنياتهم الحديثة وإيقاعهم السريع، والتي أضافت الكثير جدا لهذه الصناعة التي كانت تدور حول نفسها، حتى أن الصورة التليفزيونية كانت قد تحولت إلى مجرد مجرد ناقل للسيناريو المكتوب بدون أية إضافة حقيقية، بل كثيرا ما كانت عبئا على ذلك السيناريو باستخدام أدوات وطرق تقليدية وبالية في التصوير حفظناها عن ظهر قلب، وصار معها السيناريو وحده بجانب الأداء التمثيلي يشكلان الفارق في حكمنا على العمل إن كان جيدا أو لا، متفادين الحديث عن بقية عناصر العمل. وإذا تحدثنا عما أضافه الشباب للتليفزيون، مخريجين ومصورين ومهندسي ديكور وغيرهم من التقنيين، لاحتاج الأمر إلى مجال أرحب من هذا المقال بكثير، ولكن ليس هذا موضوعنا الآن وهو نوعية القصص التي صارت أغلب المسلسلات أسيرة لها، حتى أصبح يهيأ إليّ وأنا أتابع المسلسلات أنه لا بد وأن هناك شيئا ما خطأ في حياتي الشخصية التي لا يوجد فيها صراع من هذا النوع الدامي المشوق المحاط بالغموض، فهل هي حياتي فعلا المختلفة أم أن تلك المسلسلات لم تعد تعبّر عن عموم الواقع بقدر ما صارت تفتّش وتنبش في غير المألوف ولو من باب التضخيم والمبالغة أو حتى من باب الخيال والتأليف المحض؟

حقا أحب مسلسلات هذه الأيام بصورتها اللامعة وألوانها المبهرة وإيقاعها السريع وقدرتها على تنشيط أذهاننا بحثا عمن ارتكب هذه الجريمة أو تلك، ولكنني في الوقت نفسه أبحث أيضا عن تلك التجربة الإنسانية الحقيقية وعن ذلك الواقع الثري الذي يقدم لنا ما وراء حياة كل منا، ويثبت لنا أن كل إنسان نعرفه يمكن أن تكون في حياته قصة مهمة وتجربة عميقة تستحق أن تجد المؤلف الذي يصيغها في حدوتة درامية مشوقة دون أن يكون هذا الإنسان منحرفا أو مدمنا أو متورطا في قضايا قتل وسرقة وتهريب أو يكون وزيرا أو رجل أعمال أو ناشطا سياسيا، فهل نضبت حياتنا إلى الحد الذي لم يعد ممكنا فيه تقديم مسلسلات تقدم حياة ناس عاديين كمن رأيناهم في ليالي الحلمية والرجل والحصان وصيام صيام وفيه حاجة غلط وأهلا بالسكان والوتد والبشاير وغوايش وأبنائي الأعزاء شكرا وليلة القبض على فاطمة، وغيرها العشرات والعشرات من روائع الدراما المصرية التي قدمت شخصيات عادية تعيش بيننا ونعرفها جميعا عبر أكثر من خمسين عاما؟

أخيرا أعيد القول إنه ليس تقليلا من الدراما التي تقدم حاليا، ولكنه حنين خاص جدا إلى تلك المسلسلات التي تعلّقت بها صغيرا، ولا أحد مضطر أن يصيبه الحنين نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top