ريهام مهدي تكتب: وعندك ربع كيلو "طاقة إيجابية" وباتنين جنيه "بهجة" وماتنساش السلطات!

منذ فترة ليست بالقصيرة ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي مصطلح \”الطاقة الإيجابية\”، وفي بداية ظهوره اقترن بجزء كبير من محاضرات التنمية البشرية الهادفة لإشاعة روح التفاؤل والأمل الداعمة والمطلوبة عند مرور البعض بلحظات إنسانية هشة تتطلب وجود دعم نفسي حينئذ. وعلى الرغم من الجدل الخاص الجدير بالطرح حول \”التنمية البشرية\”، هل هي بالفعل علم حقيقي أم مجرد حالة من الوهم يلجأ إليها بعض المعالجين النفسيين أو المدعيين للإيحاء لمرضاهم أنهم قادرون على تحمل مشقات الحياة، إلا أن المصطلح لم يتم طرحه كجزءٍ من كلٍ يمكن الأخذ به والرد عليه، بقدر ما تمّ التعامل معه شيئا فشيئا على أنه نظرية غير قابلة للدحض أو التفنيد، بل وظهر لدينا أتباع الدين الجديد \”ديانة البهجة\” ومتبعو طقوس \”الطاقة الإيجابية\”.

وخلونا نتكلم أن الموضع ابتدى بمجرد تبادل صور يمكن تصنيفها تحت تيكت أنها صور \”مبهجة\” وتكون عادة إما لقطات لأشخاص مبتسمون دون أن يخبرنا أحدهم هل هم مبتسمون بالفعل لأن هناك ما يستحق الابتسام، أم أن لديهم قصة تروى لم نعرفها، فهي أعمق من مجرد ابتسامة عابرة، أم أن الأمر أتفه من كل توقعاتنا وأن تلك الصور \”المبهجة\” لم تكن سوى بعض المتطوعين الذين طلب منهم أن يقفوا لأداء مهمتهم أمام الكاميرا وصودف أن مهام وظيفتهم هي الابتسام؟

جميع الاحتمالات ممكنة، وجميع الطرق تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي إشاعة جو من التفاؤل والسعادة بألوان قوس قزح، فلا أحد يريد أن يفتح عينيه صباحا على مأساة أو خبر مفجع، ثم أخذت الديانة في التشكل لتبدأ مرحلة التبشير بالدعوة وذلك من خلال هاشتجات توثيقية مثل \”بهجة/فرحة/ سعادة/ بلالين/ النور اللي في آخر النفق/ بهججة/ براح/ زقططة\” وغيرها، مما جعل دائرة المريدين تتسع لتضم الدعوة عددا لا بأس به من الناس العابرين.. قد يبدو الأمر حتى هذه اللحظة لا يدعو للاهتمام أو التوقف، فالأمر لم يخرج عن نطاق المشاركة الإنسانية والتواصل، وهذا أحد أهم أسباب التواجد على شبكات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى أن بحث الشخص عن السعادة و ما يروق له هو حق إنساني أصيل.

جاءت اللحظة الحاسمة بانتصار الديانة الجديدة، فأصبح لدينا عالم متكامل الأركان  من \”البهجة\” دون تساؤل هل هي حقيقية أم مجرد لقطة عابرة من كاميرا مصور زهقان، وهل تصلح بالفعل كفعل مقاومة حقيقي؟ من يعمل في مجال الطب يعلم أن هناك ما يسمى بـ placebo ويمكن تفسيره بإعطاء بعض أنواع المرضى \”دواء\” هو في حقيقة الأمر عدد من الفيتامينات التي لا ضرر منها، وقد لوحظ أن حالتهم المرضية تتحسن بالفعل.. لم تعد ديانة \”البهجة\” وطقوس \”الطاقة الإيجابية\” مجرد \”دواء\” لبعض مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، بل تحولت الديانة الجديدة لأداة تمييزية ونبذ لمن رفضوا إعلان الشهادة أو الطواف حول كعبتها.. أصبح لدينا الآن مصطلحا يتم استخدامه بكل أريحية للنبذ، ألا وهو \”الطاقة السلبية\”، وذلك يبدو منطقيا للغاية، فقد تم تمرير المصطلح الأول \”الطاقة الإيجابية\” دون أدنى مقاومة ولربما في حالة انهزام وسحق جماعية وظمأ للتشبث بالأمل والنبش عنه في تفاصيل الحياة الصغيرة، فأصبح لدينا طاقة يمكن وصفها بالكراهية لكل ما/ من يمكن تصنيفه على أنه \”طاقة سلبية\” وأصبح لدينا تواطيء بالصمت على نبذ كل من يجاهر بالمعصية و يعلنها أنه/ها لا يتبعون \”ديانة البهجة\”، وأصبح الوصم أن من يلجأ إلى المساحات المفتوحة على شبكات التواصل الاجتماعي لبث همه وشكواه هم أشخاص يتسولون الاهتمام ويسعون لجذب الانتباه، فبالتالي يجب توقيع أغلظ العقوبة عليهم وجلدهم بسياط الوصم أنهم \”ناشرو ذبذبات الطاقة السلبية\” وأنهم اللي \”خرموا الأوزون\” ويجب أن يتم نبذهم و تجاهلهم، فكانت النتيجة أن البعض أصبح يتحسس موقع قدمه في ذلك الصندوق الأبيض المتقاطع مع الكثير جدا من فقاقيع البهجة، كما أصبح الفرد يتحسس كل كلمة، لربما فرقعت بلالين الطاقة الإيجابية المنثورة في الأرض بعد أن تم الانتهاء من نشر تراتيل السلام بين ربوعها ولم يعد لدينا سوى محاربة الشرذمة الضالة \”بتوع الطاقة السلبية\” الأوغاد.

وانطلقت كتائب مجاهدي البهجة في ربوع الكوكب الأزرق في ملاحقتهم والتسفيه من محاولة البعض الجدية في الصراخ، التي تتطلب الكثير جدا من الشجاعة النفسية في إعلان على الملأ الافتراضي: \”نعم نحن بحاجة للمساعدة، نعم نريد أن نلقى بعض الاهتمام، نعم نحن محبطون لدرجة أننا نكتب عن معاناتنا في تلك المساحة الوحيدة المتبقية، نعم نحن نعاني ونبحث عن قشة للتعلُق\”، وقد يكون أن شبكات التواصل الاجتماعي قد شهدت من قبل استغاثات من مستخدمين اعلنوا عن إقدامهم عن الانتحار ولم تؤخذ بالجدية الكافية، أو تمّ التفاعل معها بصورة جدية وأسفرت عن مهزلة جديدة لن نتطرق إليها، فيكفينا أنها تركت مكسبا إنسانيا لا يجب أن يستهان به، ألا وهو أن بداخلنا لازال ذلك الخيط الرقيق القادر على الاستماع لأنات البشر وتلبيته -مهما كان كاذبا أو مخادعا- وليكفينا أننا -حين نستطيع- سنمد لهم يد العون إن أمكننا ذلك، فلربما ما يحتاجون إليه في تلك اللحظة مجرد ربتة على الكتف وإحساس يعيد إليهم إيمانهم أن معجزة الحياة مازالت موجودة وأن كل شيء ممكن، ولربما \”عايزين يحسوا إنهم متشافين يا أخي\”، ومع كل تلك الاحتمالات، فذلك قد يكون يدا تأخذ بهم بعيدا عن قرار الانسحاب أو التقوقع حول الذات، أو القرار بمغادرة الحياة بأسرها.

لم تتوقف ديانة \”البهجة\” وطقوس \”الطاقة الإيجابية\” عند مجرد مستخدمين عشوائيين على شبكات التواصل الاجتماعي -قد يُغفر لهم سوء الفهم والتقدير والكثير جدا من الأنانية التي تفرضها قواعد استخدام التكنولوجيا- بقدر ما أصبحت منهجا تتلقفه الدولة لترويج ما تروج له ليمر بين مؤيديها في سلام وفي تواطيء مخجل، حين دشنت الدولة بإعلامها هاشتاج \”مصر بتفرح\”.. لم يتوقف أحد للسؤال البسيط الساذج: \”أيوة يعني إيه؟\”.. انغمس الجميع في الطواف حول كعبة البهجة الجديدة، تكالبت الجماهير في إظهار طقوس \”الطاقة الإيجابية\”، حتى إني رأيت بأم عيني في أحد شوارع البحر الأعظم عربة نقل كبيرة بها عدد من السيدات والرجال يرقصون بشكل هستيري في منتصف الليل -ظننته للوهلة الأولى احتفالا بـ \”عفش عروسة\”- لكن فاجأتني الإجابة: \”لا يا أبلة، دي مصر بتفرح\”! أذكر حينها أني لم أكن فرحة، وأذكر حينها أن محاولات البعض للتخفيف من هيستيريا \”افتعال الفرح\” قد تمّ وصمها بأنها عبارات لتكسير الهمم والمجاديف، لا تصدر سوى من عملاء أعداء الوطن، ويجب معاقبة مروجي الطاقة السلبية بالنفي من جنة الوطن المنتظرة.

لم يتساءل ولن يتساءل المؤمنون بديانة البهجة –وقتئذ: \”هو إحنا كنا فرحانين بإيه؟.. طب و يا ترى إحنا لسه فرحانين؟ طب فيه أمارة للفرح طيب؟\”، وغيرها من تلك الأسئلة البسيطة المشروعة جدا. تم الاكتفاء والاحتفاء بانتصار مزيف للـ \”فرح\” وبتدشين الهاشتاج الذي تم الردم عليه، كما تم الردم علي مناسبة صنعه من الأساس.

فلنعترف أننا في هذه اللحظة نعاني الهزيمة أمام دولة حالفة يمين طلاق تلاتة \”إننا نفرح\”، مع إن يعني مفيش دليل واحد بيشاور على الفرح -ولو من بعيد يعني- وبعدين يعني هو إحنا نكره، لكن من ناحية أخرى مفيش مبرر أن نستمرىء هزيمتنا في المساحة الإنسانية الوحيدة المتاحة للتنفيس، وهي شبكات التواصل الاجتماعي، وإن يكن هناك من فعل يستحق أن نفعله في تلك المساحة المليئة بالوصم والنبذ والمشاجرة والتمييز، فهي فعل \”أنسنة التكنولوجيا\”.

قد يبدو ذلك مغرقاً في المثالية، لكن لماذا لا نبدو إنسانيين في عالم افتراضي يثبت يوما بعد آخر أنه ليس مجرد عالم ينطفيء بمجرد ضغطة إصبع، لماذا لا نخطو خطوات نحو تقديم الدعم لمن يعلنون أنهم في حاجة إليه ويتلمسون آخر بصيص لهم بعد أن ضاقت عليهم الجدران الأربعة في الحياة الحقيقية، فهربوا إلى عالم الشاشات، لماذا لا نطرح أنفسنا مجرد بشرعاديين لنا لحظات \”فرح\” حقيقية ولنا لحظات هشة تستوجب قدرا من الشجاعة لإعلانها، فهل يكون جزاء ذلك، الاستهزاء بتلك اللحظة ووصم أصحابها؟!

ولا يُفهم من ذلك أن نتقمص جميعا دور \”دكتور خشبة\” وننطلق لممارسة العمل النفسي، فلنتركه للمتخصصين، هم أقدر منّا على ذلك، لكن أقل دعم ألا نجعل تلك المساحة الضيقة بالفعل تضيق أكثر، فنتلفت يوما ونجدنا قد فقدنا بالفعل أشخاصا عزيزين لدينا، لم نكن متنبهين لمعاناتهم، وحين تنبهنا.. تأخرنا جدا في الوصول.

دعوا من تصنفونهم بائسين وأصحاب الطاقة السلبية والشرذمة غير المؤمنة بديانة البهجة والمتمردة على طقوس \”الطاقة الإيجابية\” يعبرون عن أنفسهم وآلامهم ومعاناتهم، لربما عابر قادر أن يمنحهم معجزة ما، افسحوا لهم مكانا، فسفينة النجاة لن تقلع بـ \”الفرحين\” فقط.

حاذوا الصفوف وخلي الكتف في الكتف وضموا على بعض وقت الضيق، و\”أتأنسنوا\” يرحمكم الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top