إذا كنت طالبا في الثانوية العامة، فليس عليك الآن أن تسهر الليالي؛ لتطلب العلا، ولا أن تشعر بالرعب ليلة الامتحان.. كل ما عليك هو امتلاك واحدا من تلك الهواتف الذكية، المتصلة بالإنترنت، وأخذ فكرة موجزة عن المنهج، ثم الاشتراك في إحدى صفحات تسريب الامتحانات المنتشرة الآن؛ فكما قيل \”إن امتحان الثانوية العامة أصبح في متناول الطالب، صاحب باقة الإنترنت\”، ولا عزاء للطلبة الفقراء، الذين لن يستطيعوا العمل بتلك النصيحة، ما نقل حالة الجدل حول جريمة الغش نفسها إلى الجدل حول العدالة في الغش؛ إعمالا بذلك المبدأ الشهير \”المساواة في الظلم عدل\”! ذلك المبدأ غير المقنع إلا لأصحاب الضمائر الميتة؛ فلا يمكن أن ينقلب الظلم عدلا، حتى بعد أن نطبقه على الجميع؛ ذلك لأن آثاره لن تنال فقط أولئك الطلبة الفقراء، بل ستنال أطرافا أخرى غير تلك الواضحة في الصورة.
لا تعد جريمة الغش -فقط- إهدار لمجهودات طلبة آخرين لم يلجأوا إليه، لكنها بالتأكيد جريمة في حق مجتمع كامل؛ فغدا سيكون علينا أن نتحمل جيلا، آمن بأن الغش وسيلة فعالة، ومريحة لضمان النجاح، وربما التفوق، ولن نستطيع النظر في عين ذلك الطالب المتفوق منذ الصغر، والذي لا يعلم، ولا يريد أن يعلم للغش سبيلا.
لن نستطيع أن نعزي ذلك الطالب، إذا ما وجد زميله الغشاش، قد تفوق عليه في المجموع، ودخل كلية أفضل.. كيف سنقنع ذلك الطالب المجتهد أنه كان على صواب؟
والسؤال الأعقد؟ كيف سينظر الابن، الذي وافق أهله على اشتراكه في إحدى صفحات الغش إلو أولئك الأهل؟ وكيف سيقنعه الأهل أن الغش لا يصطدم مع مجموعة القيم، التي ربوه عليها سابقا؟ كيف سيقنعوه أن فعلهم هذا لا يشبه فعل الأب، الذي يضرب ابنه، حين يكذب، ثم يطلب منه، إذا سأل عنه أحد وهو في المنزل، الرد بـ\”والدي غير موجود\”؟
تلك الأسئلة وإن عجزنا عن الإجابة عنها الآن، فحتما سنلمس تلك الإجابة قريبا، على شاكلة تلك التحولات الاجتماعية والأخلاقية، التي نشهدها الآن، وسيكون علينا أن نشهد منها المزيد.
ربما يظن من يحمل النوستالجيا \”الحنين إلى الماضي\” داخله، أننا كنا أفضل حالا فيما مضي، لكننا حقيقة نجونا فقط من الغش وعواقبه السيئة، لكننا لم ننج من ذلك الرعب، الذي اجتاح نفوسنا ليلة الامتحان، فلم يفرق بين الطالب المجتهد، ومَنْ سواه؛ ما سبب لبعضنا أمراضا نفسية، وفي بعض الحالات وفيات، بسبب رعب تلك الليلة، والضغط المستمر من الأهل على الأبناء، وعقد المقارنات بينهم وبين أقرانهم.
أتذكر مدرس مادة الأحياء، الذي كان مصرا أن نحفظ الدرس عن ظهر قلب؛ لنتلوه عليه في الحصة القادمة، أذكر احتفاءه بالطلبة الملتزمين بتلك القاعدة، واعتقاده أني حالة ميئوس منها؛ لعدم التزامي بها، ما جعلني أعتقد نفس الاعتقاد لبعض الوقت، ثم جاء الامتحان، وإذ بي أحصل على الدرجة النهائية في الأحياء، وأدخل إحدى كليات القمة، أما زملائي، الذين التزموا بقاعدة المدرس الذهبية \”شرائط الكاسيت\” -كما أطلقت عليهم- فلم يفلح معظمهم في دخول أي كلية عملية.
ربما الذنب الوحيد لأولئك الطلبة، أنهم اقتنعوا أن الحفظ هو السبيل الوحيد للتفوق، ولتعويض نقص أي ملكات عقلية أخرى، التزاما بقاعدة المدرس، التي تشبه كثيرا قواعد مسئولي وزارة التربية والتعليم، الذين لازالوا يفكرون داخل الصندوق؛ فكل عام يؤكدون على أنه لا تسريب للأسئلة بعد اليوم، وعند كل امتحان يجدوا من يتحداهم، ويتم التسريب، ثم يتعاملوا مع تلك الأزمة بنفس الطرق التقليدية من إبلاغ للشرطة، وانتظار إلقاء القبض على المتهمين، حتى إن أغلقت الشرطة صفحة من صفحات الغش، ظهرت العشرات تحمل نفس الاسم.
ربما كان من دواعي سروري أن أطالب بتعديل نظام القبول بالجامعات؛ ليعتمد على امتحانات القدرات، وإلغاء الثانوية العامة، كما يحدث في العديد من الدول المتقدمة، بل ربما كان ذلك مطلبا عاما في كل ربوع مصر، لولا معدلات الفساد في بلدنا، والتي لا تخفي علي القاصي والداني، ، وبعدما قيل على لسان أحد وزراء \”العدل\” لدينا، أنه لا مكان لابن عامل النظافة في سلك القضاء، لن يتجرأ الكثير منا على تبني ذلك المطلب؛ لعلمنا بأن الدائرة ستدور على ابن عامل النظافة، وغيره من الفقراء، الذين ربما لن يُحرموا فقط من دخول سلك القضاء والجهات السيادية، بل ربما من التعليم الجامعي برمته بناءا على امتحانات القدرات تلك!
ربما الأنسب إذن أن نطالب دوما بما نعلم أنه لن يتحقق قريبا، وربما لن يتحقق بعيدا أيضا، ألا وهو إصلاح منظومة التعليم والبعد عن الحفظ والتلقين واتباع أساليب الفهم والتطبيق العملي.