ريم الدفراوي تكتب: قبل الملابس.. بعد الحجاب

بالأمس فقط شاهدت مقطع فيديو يظهر فيه مجموعة من الشباب الذين يناقشون مسألة الحجاب: مجرد \”قعدة شباب\” غرضها الوصول إلى أكبر قدر من الحجج التي لا تأتي من قلب الفقه، ولكن من المأثورات الأدبية والملاحظات اليومية العادية، والتي يمكن استخدامها عند محاججة \”البنات\” غير المقتنعات بالحجاب على طريقة: \”كيف تُفْحِم صديقك الملحد في ست خطوات دون معلم.\”

يبدأ الفيديو بادعاء لا أعلم من أين أتى به صاحبه، وهو أن الطبيعة البشرية فُطِرَت على ارتداء الملابس، وإذا كان يمكننا تعريف الفطرة بالوازع الذي يدفعنا لبعض التصرفات بداهة دون تفكير، فارتداء الملابس بشكل عام لم يُفْطَر عليه البشر لأن البشر –ببساطة- لم يبدأوا في ارتداء الملابس إلا منذ 170000  سنة فقط أي بعد ملايين السنين من تطور أجدادنا الأوائل، ولم يرتدوا الملابس طلبا للاحتشام أو درءا للتحرش الجنسي في أحراش العصور الجليدية، وإنما فقط طلبا للدفء والحماية، أي أن الملبس كان ضرورة من ضرورات البقاء كالغذاء والتكاثر.

لم تزد الملابس في هيئتها الأولى عن بعض الخِرَق المصنوعة من جلود الحيوان والتي لا تواري أكثر من سوءات البشر، ولم يعرف البشر الملابس المحاكة إلا منذ 25000 سنة، وعُرِفَ بعدها استخدام الصبغات الملونة وتطريز الملابس كوسائل للزينة والوجاهة الاجتماعية، وأحيانا أيضا للتفريق الطبقي، وذلك منذ بضعة آلاف من السنين. إذن فالرغبة في ارتداء الملابس ليست من الفطرة، والملابس نفسها يمكن اعتبارها منتجا حضاريا كنظم الحكم السياسي والعلوم الاجتماعية وسائر المنتوجات الثقافية.. هذا من ناحية الملابس كمنتج مادي.

أما من ناحية الملابس في إطارها الثقافي، فالأزياء منتج ذكوري تماما.. الرجل القابع على رأس هرم السلطة في البيت والدولة والمؤسسة الدينية ابتكر أزياء للكهنة، فرّق بالياقات البيضاء والزرقاء بين الحِرَفيّ والمكتبيّ، صمم زيا خاصا بالمقاتلين والمحاربين، استخدم مهاراته في حياكة لباس ملكي يليق بقدر الملك وزي للقاضي والوزير وكبار السن والطبقات الدنيا في مصر القديمة مثلا.

لم تكن النساء استثناءً، ففي أدبيات المصريين القدماء والآشوريين واليونان والرومان، هناك إشارات مختلفة لارتداء النساء لأزياء معينة (منها بالمناسبة استخدام وشاح لتغطية الوجه) بغرض التفريق بين سيدة المنزل والخادمة، بين الرعايا العاديين وبنات الطبقات النبيلة، وأحيانا لحجب هوية السيدات ذوات الشأن. إذا مددنا هذا الخطّ على استقامته سنصل إلى التراث الإسلامي ومسألة ارتداء الحجاب للتفريق بين الحرائر والإماء أو لحجب هوية فئة معينة من النساء خوفا عليهن من الأذى.

إذًا، فـ\”الزي الموحد\” والخاص بجماعات أو طبقات اجتماعية أو فئات تشتغل بنفس الحرف ليس فطريا هو الآخر على الإطلاق، وإنما كان إحدى منتجات مسيرة الحضارة، وتطور المجتمعات البشرية من تجمعات أفقية عند فجر الحضارة إلى تجمعات هرمية بها فروق في المكانة والسلطة والهوية الإثنية والدينية.

ما هو الفطري إذن إذا اتفق لنا الحديث عن الفطرة؟

الفطري هو رغبة البشر في التزاوج والتكاثر، وهما عمليتان تحتاجان إلى موارد، الموارد التي كانت في حدها الأدنى بالنسبة للإنسان البدائي تتمثل في الغذاء والقوة البدنية اللازمة للحماية، وفي شكلها الحالي تشمل عددا كبيرا من الموجودات المادية، التي تبدأ بالسكن المناسب والشبكة والمهر، مرورا بالنيش ودولاب الفضية، انتهاءا بقائمة العفش وخلافها.

المهم أن المسألة كانت ولا زالت تحتاج إلى موارد، ولأن الموارد محدودة ولأن النساء يفضلن الرجل صاحب الموارد الوفيرة، فقد نشأ عن ندرتها تنافس شرس بين الرجال حتى يتمكنوا من الوصول إلى المرأة.

هنا يقترح علم النفس التطوري أنه في هذا التنافس لتوفير الموارد، كان على الرجل أن يتأكد أن أبناءه من تلك المرأة هم أبناؤه حقا في أزمان سحيقة وسابقة للمجتمع البشري في أكثر صوره بدائية، وفي ظرف لم يكن يتيح أي وسيلة للتحقق من البنوة إلا بإبعاد المرأة قسرا عن كل الذكور المحيطين الآخرين.

وإذا كانت البطريركية (حكم الأب/الرجل) نشأت مع اعتماد البشر على المجهود العضلي للتحصل على الغذاء والحماية، فإن التماهي الأنثوي مع سلطة الرجل قد نشأ من رغبتها في إثبات أنها جديرة بتلك الموارد عن طريق طمأنته إلى إخلاصها وملكيته الحصرية لجسدها الحامل لأبنائه الضروريين لبقائه وبقاء النوع.

هذا الإثبات تطلب من الأنثى، على امتداد خط تطور البشر، اعتزال الرجال أحيانا، وإبداء الطاعة للرجل أحيانا، وحماية الجسد من رغبات الرجال الآخرين بشتى طرق التغليف والتعليب، وحماية الجسد من رغبات النساء أنفسهن بالترهيب والوصم، وأحيانا بأحزمة العفة والختان.

بعد مئات الآلاف من السنين، لم يعد الرجل بحاجة إلى إثبات بنوة أبنائه بالعزل والقسر، لكن صارت رجولته وثيقة الصلة بمفاهيم العار والعذرية واستحسان المجتمع، هي التي تحتاج إلى إثبات بواسطة نفس الوسائل التي استخدمها الإنسان البدائي كبديل عن تحاليل الـ DNA.

يقول أحد الشباب في الفيديو أن العري عاد بالمرأة إلى الجاهلية، وهذا ليس دقيقا تماما، فقد عدنا إلى منطق ما قبل الحضارة البشرية نفسها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top