لا أذكر تحديداً متى بدأت أفكر في الحياة كسلسلة من الهزائم والانتصارات.
لا بد وأنه حدث تدريجياً، مع محاولة تحسس الطريق في عالم البالغين، المهم أنني وجدتني لاإرادياً أحمل هزائمي في الحياة، واحدة بعد الأخرى، الكبير منها والصغير، وأعدها كل صباح لأتأكد أنني لم أنس منها شيئاً. أحياناً، ألتفت إليها حين يستعصي علي تعريف ذاتي، فأصبح أنا التي انهزمت في كذا، وضيعت كذا وآذيت فلاناً وأوذيت من فلان .
تعلمت أن أصوغها بكل ما أوتيت من صدق مع نفسي، وصدامية مع العالم.
فوق هزائمي الشخصية، أحمل هزيمة جيلي الكبرى التي لم أسع لها ولم أطلبها قط، لكنها وجدت طريقها إلى، كما وجدت طريقها إلى بقيتنا. تلك التي لا يخفف من ثقلها شئ كونها تتكئ على كتوف الجيل بأكمله.
أما انتصاراتي، فقد أطلقت سراحها إلى النور، بعد أن سئمت الحياة في ظلي. هناك من يرونها وينسبونها إلى، لكني أشعر أنها لم تعد ملكي. اتخذت لنفسها حياة خارج كياني، كأنها نمت لها أجنحة وأصبحت تحلق في سماء لا تبلغها يداي ولا بصري.
******
في سنوات المراهقة تعلمت أن أقدس الوحدة. كانت الوحدة مرادفاً لألفة النفس ومصادقتها والاستغناء بها عمن سواها.
تعلمت أيضاً أن أكره السلطة -الأهل والمدرسة والقواعد الخفية الحاكمة لعالم المراهقين. أردت أن أحدث ثورتي الخاصة، لكني عجزت عن ذلك. لذلك كانت الوحدة، وكان الغضب، على كل شئ وكل أحد. في مخيلتي كان التخلي عنهما ضرباً من التصالح مع الواقع، وأنا لم أكن على وشك أن أرتكب هذه الخيانة في حق وعيي المكتشف حديثاً. ليكن الغضب ولتكن الوحدة إذن، لكن بلا تصالح مع الواقع.
راكمت في هذه الفترة مخزوناً من الغضب لم يقدر كل استخفاف وتهكم بداية العشرينات على محوه تماماً، وبنيت مقاماً لوحدتي كمقامات الأولياء، وأصبح كل إنسان تهديد محتمل لها.
في بداية العشرينات، تتحول الوحدة من رمز للاستغناء إلى شئ أكثر تركيباً.
في بداية العشرينات، لم أعد أحمّل نفسي عبء الانتصار على الواقع، في أحسن الأحوال أود فقط أن أفهمه أو ربما أن أتحايل عليه.
تتحول علاقتي بالـ\”آخر\” -كل من هو ليس \”أنا\”- من رفض متصل إلى شد وجذب، بين توجس من فكرة فقدان الذات في تيه العلاقات الاجتماعية، وإدراك يهبط علي تدريجياً أن الوحدة ليست جميلة كما كانت تبدو في حموة المراهقة، بل وإنها ربما لم تكن جميلاً حينها أصلا، يصحبه اعتراف على مضض بأن الناس مهمون، مهما كان وجودهم مربكاً وغير مريح ومرهقاً أحياناً، إلا أنهم مهمون، وأنني ربما أحتاج إليهم فعلاً.
******
يقول إرنست همنجواي في خطاب تلقيه جائزة نوبل، إن الكتابة في أحسن الأحوال هي عمر من الوحدة، وإن الكاتب يواجه الأبد كل يوم.
أتساءل أحياناً عما كان يعني بمواجهة الأبد.
ربما الأبد هو الصفحة البيضاء. الفضاء اللانهائي بين ما نشعر وكيف نعبر عنه، والكاتب حين يخوض تلك التجربة، مهما كان دافعه فيها شخصياً أو أنانياً، فإنه يخوضها نيابة عنا جميعاً، هو يخوض معركة الإنسان الأزلية ضد وحدته وعجزه، ويرسل رسائل عابرة للزمان والمكان، يسرب فيها شيئاً من الأنسة، مختلساً إياها من وحشة العالم.
أو ربما الأبد هو ببساطة الموت، احتمالية الفناء التي تلاحقنا في كل ثانية. فإذا كان ولا بد أن تهزمنا في النهاية، فلنشاكسها قليلاً قبل أن نرحل، لنترك شيئاً منا رغماً عنها.
******
لا يعبأ بطل القصة في بداية الأمر بكونه قد تحول إلى صرصور. لا يهلع ولا يصرخ ولا يطلب المساعدة، ﻷنه لا مجال في عالمه لذلك، يجب أن يحافظ على هدوئه وأن ينهض من فراشه ويتناول الفطور ويلحق بالقطار القادم ليعوض ساعات العمل التي فاتته. يجب ألا يخسر وظيفته ولا يخذل الأسرة التي يعولها.
كنت أنتظر أن يتحقق له ما أراد، أن يحمل جسده الضخم على أقدامه اللزجة ويخرج ليلحق القطار. وأن يظل في غفلة عن امتساخه إلى الأبد، كترس في ماكينة الرأسمالية أو شئ من هذا القبيل، لا يملك وقتاً ليستوعب ما حدث له أو يتعافى منه، لا وقت للتصالح مع النفس أو لسؤالها الأسئلة المهمة. هكذا أكملت القصة في رأسي. في هذه الحالة، كان ليبقى حياً أو ربما نصف حي. حينها كنت سأقول إنني أرى نفسي في صرصور كافكا.
لكن في قصة كافكا، لا يتسنى له ذلك، بل إن الواقع يسحقه تماماً، ويفرض عليه وجوده الجديد فرضاً. في كل مرة يحاول فيها أن يمارس إنسانيته، يتعرض لأذى يذكره أن أيامه كإنسان قد انتهت. في هذه الحكاية أيضاً، أرى نفسي في صرصور كافكا.
******