رضوى شريف تكتب: تذكر.. إنها خطيئة أن تقتل طائرا محاكيا

بوست لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين على الفيسبوك.. إحصائيات بأحكام الإعدام الصادرة في محاكمة عسكرية ما ، وتاريخ الحكم القادم .. ١٣ مارس. أشعر بالحزن، لكنه حزن فاتر، فقد اعتدت مثل هذه الأخبار.

في الفترة الأخيرة تعودت أن ألبس رداء العجوزالحكيم المتهكم الذي لم يعد يدهشه أن البشاعات تحدث في الدنيا، ولم يعد لديه أمل في مصر ولا في البشرية كلها.. كدرع مصفح ضد أخبار المآسي التي نتلقاها بشكل يومي. هذا أسلوب ممتاز للحفاظ على صحتك النفسية إن كنت من سكان مصر أو الوطن العربي، لكنه يصلح فقط عندما تكون مشاهداً من علٍ، تتابع الأخبار، وربما تتأثر بها لبضع دقائق، لكن بينك وبين التخلص منها والانغماس في حياتك اليومية كبسة زر.

لكن عندما يشاء الله أن تتحول مرة الأرقام الجامدة على الصفحة إلى بشر، لا مجال للتهكم هنا ولا للسخرية ولا للفتور.

بدت القصة المذكورة مألوفة بشكل ما.. ثم صفعتني ذكرى بعينها.

تذكرت صديقي.. الذي لا يعرف أن يكون إلا إنسانا صادقا وجميلا وخيّرا..  وجهه يوم قال لي إن أصدقاءه المعتقلين أحيلوا إلى المحكمة العسكرية.. ثم رسالته بعدها بأسابيع بخبر إحالة أوراق صديق له للمفتي.

كل شئ يختلف إذا ما أخذناه لمستوى شخصي، يسقط هذا الدرع فجأة عندما يتعلق الأمر بك أو بمن تعرفهم معرفة شخصية.. لا توجد هذه الرفاهية عندما تضيق دائرة المآسي لتمسّك ولو بشكل غير مباشر.. أو عندما تتخيل نفسك عاجزاً عن مواساة صديق في فاجعة كهذه.. لا مفر عندها من أن تفتح عينيك على حقيقة أن هذه الأرقام وراءها بشرا حقيقيين مثلك.. قد يكونون على أعتاب الموت حقا.. لن يبدو الأمر مضحكا ولا مدعاة للتهكم.. يرحل العجوز بحكمته وتهكمه ونظرته المتعالية .. ويحل محله طفل يصرخ أن لماذا يا رب تترك هذا يحدث؟ لا مجال لحزن فاتر هنا.

بكيت يومها.. كما كنت أبكي وأنا طفلة حين تعرفت للمرة الأولى على فكرة الحرب (ذلك الشئ البشع الذي يقتل فيه الإنسان إنسانا مثله)، وكل ما جال في رأسي ساعتها أنه لا يمكن أن يحدث هذا.. لابد وأن الله لن يدع هذا يحدث.. أصبح فجأة لدي أمل في كل الناس، الأشرار منهم قبل الطيبين.. الجلادين والسجانين قبل القديسين.. ربما يرق قلب أحدهم لشباب في عمر الزهور.

وأصبحت اشعر أنني أعرف ذلك الفتى الذي لم ألقه قط، وأصبحت أحفظ اسمه كاسم واحد من معارفي.. وتخيلت أهله.. لا بد وأن له أهلا مثل أهلي.. وأصدقاء.. وربما لديه أحلام تشبه أحلامي.. ربما لو التقيته سنصبح أصدقاء.. لكنهم يرون أنه يستحق الموت.

يستدعي عقلي الأدب في أوقات غريبة حقا.. ترددت عبارة  في رأسي بلا انقطاع.

\”إنها خطيئة أن تقتل طائرًا محاكيًا\”

رحلت هاربر لي منذ بضعة أيام.. وتركت لنا تراثا مكونا من كتاب واحد هو \”قتل الطائر المحاكي\”.. الطائر المحاكي هو كل هؤلاء البشر المسالمين، الذين لا يؤذون أحدا، لكنهم في الغالب يتعرضون للأذى.

بالتأكيد لم تكن هاربر لي لتتخيل أن الواقع المصري سيجد تجسيدا لفكرة الطائر المحاكي، ربما يفوق خيالها، وأنه لن يفعل ذلك مرة واحدة.. بل عدد لا نهائي من المرات، وسيقرأ علينا نعي الطائر المحاكي كل صباح. \”لا تفعل الطيور المحاكية شيئا واحدا، سوى أن تصنع لنا موسيقى  لنستمتع بها.. لا تأكل حدائق الناس.. لا تعشش في صوامع الذرة.. لا تفعل أي شئ سوى أن تشدو لنا من قلوبها.. لهذا هي خطيئة أن تقتل طائرا محاكياً\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top