هل نحن كبشر نتصرف بالفِطرة مثل الحيوان فيما يتعلق بتحديد مناطق نفوذنا؟ بمعنى هل لو لم توجد حدود تفرضها الأنظمة الحاكمة، كنا سنخلق لأنفسنا كشعوب حدود حتى نحافظ على هويتنا؟ أم أنها مجرد فكرة تم زرعها وترسيخها من قِبل الأنظمة الحاكمة فى عقول الناس للسيطرة عليهم؟
التحكم فى الهجرة وحركة الأفراد عبر الحدود يرجع لما قبل العصور الوسطى. السياسات المرتبطه بذلك وقتها كانت مختلفة عن الوقت الحالي بالتأكيد، لكن المتفق عليه أنه كان يوجد دائما نوع من الوثائق أو أوراق تُستخدم فى السفر من بلد لبلد آخر.
لكن التحكم فى الهجرة الدولية والسفر عبر الحدود بمعناه وشكله الحالى، يرجع لـ ١٠٠ عام، حيث نشأت فكرته فى الولايات المتحدة، التى كانت وقتها أرضا بِكر، وأرض الاحلام للكثيرين، فكان يهاجر إليها المضطهد دينيا والباحث عن فرصة عمل أفضل.
الولايات المتحدة كانت تقبل المهاجرين لأراضيها من جميع أنحاء العالم بدون أى مشاكل أو صعوبات، لكن حدث أنه فى فترةَ ما، بدأ قلقلها يتنامى بخصوص فئه معينة، ألا وهي الصينيين الوافدين لها.
الولايات المتحدة رأت وقتها أنهم فئة تهدد أمنها القومى وثقافتها واقتصادها لأسباب لا يوجد مجال لذكرها هنا.. بناءً عليه، فقد بدأت االولايات المتحدة فى عام ١٨٨٢ بِسْن تشريعات وقوانين معينة، استطاعت من خلالها الحد من هجرة الصينيين لأراضيها، وضغطت دولياً حتى ظهرت فكرة جواز أو وثيقة السفر.
تطور مفهوم تلك الفكرة بعد الحرب العالمية الأولى فى أوروبا نتيجة لعدد اللاجئين الهائل وحالة الزنوفوبيا أو كراهية الأجانب التى انتشرت وقتها.. من هنا نستطيع أن نقول إن وسائل التحكم الحديثة فى سفر وانتقال الأفراد من بلد لآخر (جواز سفر..فيزا…إلخ) بدأت منذ ذلك الوقت.
مع ارتفاع معدل الهجرة القسرية فى وقتنا الحالى نتيجة لأسباب متعددة، أهمها الحروب الإقليمية، ومع تعسف إجراءات الهجرة من بلد لآخر، وزيادة أعداد اللاجئين، يطرح سؤال نفسه بشدة، ألا وهو: هل فكرة الحدود أصبحت فكرة عديمة الجدوى، واثبتت فشلها بعد كل تلك السنين، وخاصة بعد تفاقم الأزمة السورية فى السنوات الأخيرة؟ هل فكرة الحدود تصب فى مصلحة الرأسمالية العالمية؟ وهل هي وسيلة لعدم المساواة بين الدول المتقدمة ودول العالم النامي؟ هل هو نظام لزيادة العزل بين الشعوب وبالتالى زيادة العنصرية والشعور بالأفضلية؟ هل هو نظام يعزز أفكار مثل القومية؟ هل هو وسيلة الحكام للسيطرة على مجموعة من البشر واستخدامها لإرهابهم دائما من المخاطر المحيطة بهم ومن “الآخر”؟ هل استطاعت الحدود أن تحمى الأمن القومى لأى بلد كما يُفترض بها؟ أليس الحق فى الحركة بحريه حق أساسى للإنسان ولا يجب منعه منه؟ هل أصبح فتح الحدود ضرورة مُلحة لحل مشكلة اللاجئين المستمرة، والتى اصبحت معقدة نتيجة للصراعات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتى من الواضح أنها لن تنته قريباً؟.
كل تلك الأسئلة يطرحها المؤيدون لفتح الحدود بين دول العالم -وأنا من ضمنهم- وبغض النظر عن إن كان كل من ينادى بفتح الحدود هم مجموعة من الحالمين، كما يُطلق عليهم، والراغبين بتحقيق يوتوبيا ليس مكانها كوكب الأرض، أو أنهم بالفعل يتحدثون من واقع أنه لم توجد قيود على حركة الأفراد بين الدول قبل عام ١٩١٤، ولم ينتج أى مشاكل تُذكر عن ذلك. فهذا الجدل ليس أساس موضوعى، لكن كان يجب أن ابدأ حديثى بالسيطرة على حركة الأفراد عبر الحدود، لأنها تمثل عائقا أساسيا من العوائق التى تقف فى طريق اللاجىء الذى هو محور موضوعى.
اللاجىء كلمة عامة وشائعة جدا، وهكذا كانت حتى أخذت صفة قانونية سنة ١٩٥١ كجزء من معاهدة الأمم المتحدة للاجئين، والتى حددت من هو اللاجىء، وما هي حقوقه والتزاماته.. اللاجىء هو (أى شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل / تستظل بحماية ذلك البلد، أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد).
الشىء الغريب بالنسبة لى هو لماذا يتم التعامل مع اللاجىء باعتباره “عبء” أو شخص يستفاد من الدولة المُضيفة بدون أى إضافه لها فى المقابل، ويتم التعامل معه على اعتباره تهديدا للأمن القومى فى بعض الأحيان، أو بعنصرية وبنغمة يشوبها الشوفينية غير المبررة، في حين أن اللاجىء ثروة بشرية وقوى عاملة -وقد اقول أرخص من غيرها- إذا تم استغلالها بصورة جيدة، يمكن أن تحقق تنمية اقتصادية للبلد المُضيفة.
اللاجىء يخاطر بحياته ويتخلى عن أغلى ما يملك خلال رحلته الطويلة فى الهروب من بلده للبلد المُضيف، فالشىء الأكيد أنه لن يبخل بوقته أو مجهوده لبدء حياته الجديدة فى بلده المؤقت، بعد كل المشقات التى تحملها.
فى أوقات الحروب وعدم الاستقرار التى مرت بها بعض الدول على مر التاريخ، كانت مشاركات اللاجئين المالية لتحسين الاقتصاد للبلد المُضيفة شىء مميز كنوع من أنواع رد الجميل.
اللاجىء يضيف بُعدا ثقافيا (ألبرت آينشتاين وفريدريك شوبان مثالان جيدان) واجتماعيا وإنسانيا للدولة المُضيفة.. اللاجىء يجذب المساعدات الدولية للدول المُضيفة، وفى نفس الوقت يجعل الدول المُضيفة تفكر فى تعديل القوانين المحلية الخاصه بها، عن طريق مناقشتها مع المؤسسات الدولية المعنية، حتى تتماشى مع القانون الدولى فيما يخص شأن اللاجئين.
من الطبيعى حدوث مشاكل مع تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على دول معينة، مثل ما يحدث حاليا، لكن هذا ليس ذنب اللاجىء، لكنه إخفاق من الدول المجاورة بالأخص، والدول فى العموم التى ترفض استضافة أو المساهمة فى مساعدة اللاجىء، وترمى بالحمل على غيرها ممن لا يمتلك الموارد الاقتصادية لاستيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، إذ أنه يجب أن تتضافر جميع الجهود الدولية لاحتواء أزمة اللاجئين الحالية التى يبدو أنها لن تُحل سريعا وتتفاقم بمعدل جنونى.
أما على مستوى الأفراد فإن ما اتمناه من أى شخص، هو النظر للاجىء على أنه إنسان يمر بأزمة خارجة عن إرادته، قد تطول أو تقصر مدتها، والتفكير فى الأهوال والمصاعب و المخاطر التى مر بها، وتأثيرها النفسى عليه، حتى يصل لبر الامان. يجب أن يكون العامل الإنسانى قبل أى شىء هو الدافع لكل تصرفاتنا تجاهه، لأن ذلك ما تحتمه علينا إنسانيتنا قبل أى شىء، ولأن إنسانيتنا هي سبب بقاء الجنس البشرى حتى الآن، فباللامبالاه وعدم الاكتراث والأنانية، لكان الجنس البشرى قد انقرض منذ زمن طويل.