رزان محمد حمدي تكتب: شح الأُرز

ربما أحيا حياة مثالية خالية من الشوائب من وجهة نظر البعض العامة المعممة. وربما ينظرون من منظار هو أضيق من \”خرم الإبرة\”.

وكالعادة الحقيقة دائما مختلفة، ولا يجهدون أنفسهم حتى بتصديقها. الحياة في \”بلاد الأرز\” أو في الخليج بمعنى أقل سوقية. ما حقيقة هذه الحياة؟ للأسف ليست مالا فقط.

إن أحياءها لا يملكون جذورا.. ينمون هنا وهناك. أبعد ما نكون عن المثالية.

حقيقة، نحن في صراع كل يوم. بل وساعة. صراع في اكتشاف من نكون حقا. صراع في محاولة التموه في كلا المجتمعين.. مجتمعنا البيولوجي، ومجتمع وضعتنا فيه الأقدار رغما عن مشيئتنا.

قذفت بنا فيه الرياح التي سارت بما لم تشتهيه سفننا. مغتربون. وكوننا مصريين، فالاسم الأنسب هو لاجئون \”high class\” حتى الآن.

قد تبقينا غربتنا ولجوئنا على مسافة من كوارث مصر الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، إلا أننا في المقابل نتجرد من كل ما هو مصري.. حتى لهجتي، أتجرد منها غالبا دون عمد!

نعم الدراسة سهلة، ولكننا نزحف زحفا لتحصيل ربع درجة لأجل عيون التنسيق، ونقتل قتلا في سبيل مقعد واحد في كلياتكم الكريمة.

نعم مصرية، ولكنني أعامل كمغتربة في بلادي، من قِبل البشر والجهات الحكومية التي ترانا نزن أكيالا بترولية لسبب غير مفهوم!

نعم أُحصّل المال، ولكنه يتطاير أمام عيني كمحلول متبخر في سبيل تنشئة حياة لائقة \”بمصري مغترب\”، أو ربما لتنشئة حياة لائقة ببني آدم فقط!

نعم أعيش في رغد قليل، ولكني أخرج منه بمرض غير جليل.

نعم أعيش في الأرز، وكل قرار حكومي يطبق عليّ قبل مواطنيه.

نعم أعيش في الأرز، وبمجرد أن أخرج منه، يعرفوني كما يعرف المتعصبون المرأة.. ناقصة عقل ودين.. علم هامشي، والمعنى الخطأ للدين، وربما حتى المتشدد منه.

نعم أعيش في الأرز، ولكن جزءا مني يموت كل يوم في سبيل اكتشاف الجزء الآخر.
نعم أعيش في الأرز، ولكني أعاني من عنصرية لا متناهية هنا وهناك.

نعم أعيش في الأرز، ولكني لا أفقه هذا العالم.. غريب في غربته، وتائه في وطنه.
نعم أعيش في الأرز، وأموت كل يوم من الخيانة والطعنات.

نعم أعيش في الأرز، وهذا المسمى نعيم سأخرج، بل سأطرد منه يوما.

نعم أعيش في الأرز، وربما أعلم عن بلاده أكثر ما يفقه عنه مواطنيه، ولكنني أكره الأرز.

نعم أعيش في الأرز، ولكنني لا أعيش في الجنة.. أعاني ما تعانونه، أكابد أضعافكم، ولكن لله حكمته في أن يعاني كل امرئ بجانب مختلف.

أعيش في الأرز، وأنا شاكرة لكل ما وضعني الله فيه أيا كان، ولست شاكرة للرز بذاته.

أعيش في الأرز، وعندما اكتشفت ذاتي أخيرا، كانت لا تتماشى مع الأرز.

نعم أعيش في الأرز، ولكنه الآن في شح.

نعم أعيش في الأرز، ربما تعدون \”أشولته\” كثيرة، لكنها صدقوني شحيحة.. شحيحة جدا.. حباته ضعيفة، لا تقدر على مواجهة انهيار اقتصاد مصر ولا عنصريتكم ولا بغضكم وتشاحنكم.. لا تقدر على مواجهة دموع اشتياقي لأهلي وأرضي.. لا تقدر على مواجهة جهلي بالعالم وجهلي بمصر وجهلي بكل ما هو جميل هناك.. لا تقدر على مواجهة أمراضي الناجمة عن توتر الحياة في الأرز.. لا تقدر على مواجهة نفسي ضد نفسي.. لا تقدر على تفادي توقف حياتي لتقلني بدلا من ذل السائقين.. لا تقدر على مواجهة الغربة وهي الغربة بذاتها.

الأرز هو مجرد أرز يشح كل يوم، ولا يقوى على فعل شيء حيال ذلك.

رفقا بالأرز، والأهم، رفقا بالطعام الذي تشبّهون به كل بغيض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top