في المساء، وبعد يوم طويل من المعاناة في العمل والشارع والمواصلات ودقيقة الحداد التي يقضيها أمام محلات الجزارة، وأخيرا الرجوع للبيت منتصرا حاملا البطيخة إياها (قدس الأقداس للطبقة الكادحة التي تمسكت بهذا الطقس كآخر علامات \”البحبوحة\” المتبقية من أصولها العريقة المنتمية للطبقة المتوسطة المنقرضة)، جلس المواطن \”مصري\” أمام شاشة التلفاز يتابع برنامج يقدمه مذيع أسمر اللون، يبدو مسليا إلى حد كبير وخاصة مع حركات وجهه وارتفاع حاجبيه المستمر كأنه تمرين رياضي ما يحرص عليه، والذي يطل على مشاهديه من إحدى الفضائيات المملوكة لرجل أعمال \”وطني\” من الذين يملكون كل شئ إلا شيئا \”واحدا\”.. مرتبات العمال في شركاتهم\”.
طل المذيع ذو الوجه (البشوش) وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة من النوع \”العريض\”، أجبرت المواطن \”مصري\” على أن يتابع هذا المذيع الذي يبدو أن كلامه من النوع \”اللي بيمس القلب\” و\”يكيف العقل\”، هكذا يبدو عليه من بدلته الأنيقة وساعته التي يكفي ثمنها لإطعام دار أيتام لمدة سنة على الأقل ولم يشتت انتباه المواطن عن المذيع ذي الطلة سوى شريط الأخبار المزعج في آخر الشاشة، والذي أخذ يمر أمامه كشريط لا ينتهي من الأخبار وتصريحات المسؤولين:
ارتفاع جديد في سعر الدولار أمام الجنيه.. الموافقة على قانون الخدمة المدنية.. لا مساس بمحدودي الدخل.
زيادة الضرائب على البنزين والسجائر.. لا مساس بمحدودي الدخل.
الموافقة على قانون الضريبة المضافة.. لا مساس بمحدودي الدخل.
زيادة أسعار تذاكر القطارات.. لا مساس بمحدودي الدخل.
بحث رفع أسعار تذاكر المترو.. لا مساس بمحدودي الدخل.
زيادة في رسوم خدمات الأحوال المدنية.. لا مساس بمحدودي الدخل.
فرض 10 جنيهات زيادة على الأوراق المستخرجة من المحاكم لصالح صندوق الرعاية الصحية للقضاة.. لا مساس بمحدودي الدخل.
رفع أسعار الدواء.. لا مساس بمحدودي الدخل.
زيادة رسوم التراخيص المستخرجة من وزارة الداخلية لصالح رعاية ضباط الشرطة.. لا مساس بمحدودي الدخل.
زيادة أسعار الكهرباء بأثر رجعي.. لا مساس بمحدودي الدخل.
حتى استفاق من شروده على صرخات متقطعة تشبه صرخات نادية الجندي الشهيرة في نهاية كل أفلامها، ولكنها لم تكن \”نادية\” ولم يكن فيلما.. كان هذا المذيع الذي يبدو عليه أن كلامه من النوع \”اللي بيمس القلب\”: إحنا نجوووووووووووع، بس مصر تعيش.. نموت، بس مصر تعيش.. نتحمل عشان مانبقاش زي سوريا والعراق.. إنتوا شعب متدلع.. الإنجازات اللي إنتوا عايشين فيها، العالم كله بيحسدكوا عليها، وبيتآمروا علينا عشان إحنا طالعين بسرعة الصاروخ.. الريس ما بينامش، بس الحكومة فاشلة.. الريس كل همه محدودي الدخل، بس مجلس النواب وحش.. هو لوحده اللي شغال عشان في الآخر قلة متدلعة من الشعب تقول إنها مش لاقية تاكل، أو بتموت لأنها مش لاقية الدوا.. مفيش حد بيموت من الجوع في مصر.
وبدأت دموعه تنهمر على وجهه الرقيق: \”استحملوا يا مصريين، وبكرة تشوفوا مصر\”.
هنا كان المواطن مصري قد أخذ نصيبه من \”الاستحمال\”، فقام متجها نحو الثلاجة القابعة بالمطبخ ليتسمر أمام أرففها الخالية دقائق، قبل أن يسقط في غيبوبة سكر لم يعرف إن كان سببها الجوع أو الخوف، بعد أن فرغت عبوة الأنسولين ومرتبه في نفس اللحظة.
وقبل أن يسقط على الأرض، مر شريط الأخبار أمامه مصحوبا بصوت المذيع الرقيق: استحملوا عشان مصر تعيش، وقبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة ويفوت على نفسه رؤية \”مصر الصاعدة بسرعة الصاروخ\” و\”بكرة\” الذي لم يأت أبدا.. حسم أمره: \”سأخبر الله بكل شئ\”.