لست أدري هل سيصل إليك هذا الكلام؟ هل ستقرأينه يوما؟ ربما في عالم آخر خال من الأيام؟! لا يزال من هو في غيبوبة حتى يمتلك عقلا به أفكار تشعل نبضاته وإن رغما عنه، قد يكون ذلك مزعجا لمن تكتنفه الغيبوبة، لكنه مطمئن لأهله لأنهم على الأقل يعرفون شيئا عن وجوده معهم، فهو وجود يشعرون به مهما ضعف وخفت، أما الموت، فإن صح أن لا يزال ممن غيبه الموت وجود، فهو إذن وجود خارج كل الأطر التي تحد البشر، ربما هو وجود وراء الوجود، حيث عدم من الأسباب فلا حول ولا قوة، لا مكان ولا زمان، وكنتيجة بديهية: لا اختيار، حيث لم يأت ممن ذهب هناك أحد ليخبرنا عنه، وحيث نعلم جميعا أننا ذاهبون، غير أننا جميعا ما منا واحد يمكن أن يدعي المعرفة بما لا نعرف.
ربما يقرأ هذا الكلام قبل اللحاق بك من يجد فيه عزاء أو مواساة أو شيئا يشبهه أو يسري عنه، ربما يمكنني حين ألحق أنا بك أن أوحي لك به، فالوحي هو الشيء الذي أعرف عنه أنه يتجاوز حدود المكان والزمان حيث لا حول ولا قوة. أفتقدك جدا.. رغم أني كنت أفتقدك في مرضك وفي سفري، لكن هذا كله لا شيء إن قورن بافتقادي لك الآن، لم أكبر بعد بما يكفي لأستوعب مرور الزمن، لا زلت أجد صعوبة في استشعار مروره، لا أملك أن أوقفه، كم تمنيت لو أستطيع كي آخذ فرصة لأفهم، لكن لا شيء يتوقف، لا قبل أن أفقدك ولا حتى الآن لأستوعب فقدك!
أحيانا أستيئس من فهم ما حدث، أحيانا أشعر أن براكين دموع تحتاج التنفيس، لا بأس من الانفجار باكية بين حين وآخر، بل لا بد من التنفيس، ربما أفهم، ربما أهدأ، ربما أهتدي إلى جدوى مما أفعله، العالم مليء بما يجعل الحليم حيرانا، السرطان لم يغز جسدك فقط، بل سرطانات كثيرة مستشرية في كل المجتمعات، من المجتمعات من يقاوم وربما يجد أحد يوما دواء لا للقضاء على خلايا السرطان بل لعلاجها، لربما تصح وتعود لرشدها.. يقولون لي لن يحدث، لا بد من قتل خلايا السرطان، بعضها سيموت وحده إن عزل، فاستعيدوا تلك التي لم تفسد تماما، فالتحول لا يتم في غفلة من الزمن، لا شيء يحدث إلا ويأخذ وقتا طال أم قصر، وكذا استتابة تلك الخلايا التي لم تصل بعد إلى مرحلة اللاعودة، وكثير منها هناك، إن العلاجات والأدوية الموجودة حاليا لا تفرق بين الخلايا المريضة والسليمة حتى، إنها تشبه ديكتاتورا جن وصار يقتل الكل ويأخذ العاطل بالباطل.. هذه أدوية تقتل وما هذا بعلاج!
لا أدري أتتغذى تلك الخلايا السرطانية على الفقر أم الجهل، أتهاجم الأضعف والمهمل من الخلايا في الجسد وتقنعهم بالانقلاب ضده وهم منه؟ أم هي السموم التي تدخل الجسم من الخارج ولا يحسن التخلص منها؟ أم هو اليأس من انصلاح الحال؟ أو خيبة رجاء أورثت انسحاقا أمام طوفان السموم المهاجمة من الخارج؟ أيا ما كان، فخلاصنا من السرطان يشبه خلاص مجتمعاتنا من الخبث الذي فيها، فتلك الخلايا حين تكثر قد يصعب على الجسد التمييز أيا منها السليم وأيها المسرطن، هذا مرعب يا أمي فإن كانت هكذا مجتمعاتنا الآن فهل ستموت أيضا؟ أليس من الأفضل حال ثبوت وجود خلايا مسرطنة، محاولة وقف انتشارها بقبولها، ومحاولة فهمها وفهم ما أدى لتحورها بدلا من مهاجمتها؟ مهاجمتها تزيدها قوة ومقاومة، لماذا صعب تتبع أسباب تحور تلك الخلايا؟ لماذا لا تعتمد العلاجات لمرض كهذا على عكس أسباب التحور، على وقف تناول السموم، والعودة للطبيعة، لماذا لا تعتبر مصالحة الخلايا بدلا من قتلها، فكل الخلايا وإن طال عمرها تتجدد، أعلم أن لا سلطان لنا على خلايانا ولكن لا يمكننا أن نتوقف عن محاولة التفكير في حل ننقذ به مرضانا ومجتمعاتنا المريضة، لابد أن نقف أمام وصولنا لمرحلة يتحول فيها الطبيعي للاستثناء والمتحور الخارج الناهش في الجسد إلى الطبيعي.
لا بد أن نراجع أنفسنا خلية خلية، واحدا واحدا، على الأقل ليمسك كل منا بزمام نفسه، مجرد عدم التحول لسرطان والبقاء بسلامة وقوة ونشاط وفاعلية مهما تكاثرت حولنا الخلايا السرطانية، إنجاز، ولنراقب من أين تأتي السموم لنتجنب مزيدا منها قدر المستطاع، وأنا أؤمن أن معظم الخلايا السرطانية ستموت تلقائيا حين ينقضي عمرها أو هي شبه سرطانية وما إن تنزاح غمة السموم الداخلة ويبدأ الجسم في معرفة طريقة فعالة للتخلص منها فستعود لطبيعتها وسيرتها الأولى لتؤدي دورها.
أنت من علمتني الشجاعة والمقاومة، لذا يحز في نفسي كثيرا أن يهزمك مرض كهذا، وكما خفت عليك يملأني الآن الرعب على وطني، الجسد الذي يشبه جسدك ويعاني مما كنت تعانين منه، والذي أنا وأنت خلايا به. ربما لم يهزمك المرض وإنما هو الأجل، ربما يقاوم من يقاوم حتى النفس الأخير فينجح إذ لم يستسلم لغير الحقيقة، وهكذا لا يكون المرض إلا منهزما لأنه لم يصل للقلب ولم يكسر قوة الروح التي لم تستسلم إلا للحق. فالموت آت آت سبقه المرض أم لم يسبقه، والصبر على مرض لعين كهذا دون الاستسلام له حتى يأتي الموت، انتصار.