رحاب مسعود تكتب: حصار

عندما نكتب، محاصرون.. محاصرون عندما نتكلم.. كل فعل محاصر، بل وكل نفس.. محاصرون بكم افتراضات عن أنفسنا وعن العالم.. نحاصر أنفسنا ويحاصرنا كل من حولنا بدرجات تتفاوت.. كل كلمة نريد أن نقولها متجردة لتحمل معنى، تعاني من حصار كل ما استُخدمت له قبل ذلك.. تاريخ البشرية يحاصر الكلمات، وتقفز خبرات كل امرئ لتفرض استيعابه وفهمه، وتحصر قدرته على التعبير كذلك، قد يأتي زمان على كلمة رائعة، استُخدمت لتعبر عن استشعار العظمة ورهبة الخضوع للجلال، لتُستخدم لتعبر عن خوف من الخسة استسلاما للخسة!!!

فهل يغتال أهل اللغة لغتهم بانحطاطهم؟ لن يفهم مما أكتب ما أقصد، إلا من مر بالكلمات التي استخدمها، تماما كما مررت بها، في نفس المواضع، بل ومتخذا منها نفس المواقف، ومتفاعلا معها بنفس المشاعر، كي يفهم مقصدي.

لذا.. يلعب الأدب دورا لا يستهان به في تشكيل المعاني وصبغ اللغة بالواقع، وما يحدث الآن في فضاءات الثورة الرقمية، التي مكنت الكل من الكتابة، أن صارت حرمة المعاني تنتهك بوتيرة توشك أن تفتك باللغة فتكا.
إن كلمة كتبتها من واقع قراءاتي وفهمي، الذي جعلني أنتقيها دونا عن غيرها ﻷنني الكاتبة، وأعرف أنها ما أعنيه برؤيتي، لن تغني بذاتها اليوم في ظل المعاني ثقيلة الظل في حياتنا، والتي تصر على إضفاء معنى آخر عليها.

عندما أعدت اليوم قراءة ما كتبت منذ شهر، وطرأ ببالي وأنا أقرأ تلك الكلمة، كيف سيكون وقعها عند شريحة لم تتشبع بالأدب، وصارت السياسة -مثلا- كفاعل قوي يشكل وعي المصريين اليوم، أو لنقل يتحكم فيه، للأسف؟ لن يفهمني جيدا من لم يقرأ ما قرأت ويعرف الكلمة بعيدا عن ظلال السياسة، أم أنني أنا المخطئة، إذ لم أحسب حساب ذلك الاستخدام، إذ أقدمت عليه رغم أني أعرف ما استخدم له؟

هذا السؤال قاس جداً، لأنني لا أريد أن أستسلم أو أرضخ لما يفرضه الواقع على اللغة.. الواقع سريع الحركة تتقلب مُثله ومعاييره الأخلاقية، والظروف التي تستدعي مسميات جديدة، كثيرة، وتدفع بإطلاق مسميات على معان لم تطابقها قبل اليوم، وعندها لا تكون الكلمة مُقصّرة في التعبير عن الحال، بقدر ما يكون استخدامها في غير محلها جريمة اغتيال للمعنى قبل الكلمة، وجناية بحق تاريخ وتراث ووصايا وحكايا استُخدمت فيها تلك الكلمة.

لا يمهلنا الواقع لنفكر في الكلمة وتاريخيها، قبل أن نستخدمها لوصف حادث جديد أو وضع جد أو شيء اُختُرع أو اُكتُشف، أول من يعرف بالجديد يحظى بفرصة البحث أو التثبت، قبل أن يتحدث عنه ويتكلم.

وفي ظل وقع الأحداث المتسارع، وتردد الأوضاع، وتعدد مصادر التغيير، يتصاعد الضغط على أول من يصوغ الخبر أو يسمي الجديد، وللأسف لا يحاصر من يسمي ويكتب بعامل الوقت فقط، وإنما يحاصر بخلفية فقيرة لغويا، لا تمكنه من حسن الصياغة، وبقاعدة هشة من العلم بما يريد صياغته، وبطمع مذل في أن يسبق في الإعلان عن ما لا يعرف.. يتضافر كل ذلك لينتج لنا مع كل خبر جديد وعلم جديد وحدث جديد، اغتيالا جديدا للفظ ما، وانتهاكا لكل ما حمل ذلك اللفظ يوما من معان.

إن لم تكن معالم الاغتيال واضحة، فهو فقط لضعف ملامح الكلمات ودلالاتها عند غالب القراء والسامعين للأسف، ولا يتسبب التعدي على الكلمات في تشويه المعاني القديمة في أذهان الأجيال الجديدة فحسب، بل يسهم في إحداث بلبلة في فهم معاصري الكلمة الجديدة أنفسهم لماضيهم ولحاضرهم، وللمعنى المراد وصفه وصياغته -نفسه- عند من لم يعرفه ويشهده بنفسه.

كان حريا بمقال كهذا أن يضرب أمثلة بالكلمات التي اُغتيلت أو ارتُكبت جرائم بحقها أو باسمها، لكنني لا أريد أن أسهم في مزيد من الحصار بدعوى رفعه، ويكفي عن ذلك أن أنوه للعلاج الواضح الذي لا بد لنا منه كي لا تضيع منا اللغة.. اللغة، تلك التي تحمل تاريخنا وتراثنا الإنساني كما لا يحمله أي شيء آخر، ولو استسلمنا لتغير استخدامات الكلمات -وهو يحدث رغما عنا تكيفا- لتغيرت المعاني، وهو تزييف لا يقل خطرا عن التزييف المتعمد للماضي والواقع، العلاج هو نفسه علاج مشاكلنا كلها، أن نقرأ ونقرأ ونقرأ، أن لا نستسلم لما نستنكر، أن نكتب عن ما نعرف، وأن نساهم نحن أيضا في الصياغة، وأن نحاول الخلاص من الطمع.

أن لا يسكت العازفون المجيدون، هو السبيل لتبقى نفس معايير الجودة.

وسيبقى السؤال عن الجيد والرديء نسبيا، ويراه كل بمنظوره، قد يتحول النشاز إلى نغمة أساسية، ويصبح المجيد هو المنشز، هو تدافع إذن والبقاء للأقوى، والخوف كل الخوف أن يغلب طمع الإنسان روحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top