رانيا رشاد تكتب: عنصرية ابنتي

      

 

 

لم أنشأ أبدا على التفرقة بين أي إنسان وآخر، أو تمييزه لأي سبب خارج عن إرادته، كشكله أو لونه أو دينه أو جنسيته.

وطوال سنوات حياتي التي اقتربت على الأربعين، كان لي أصدقاء من كل صنف ولون، ولم أشعر أبدا بالتمييز بينهم لأي سبب كان، لم أكن أحبهم، إلا لأخلاقهم وصفاتهم الشخصية الجميلة، ولم أكره صديقة أو زميل لأي سبب كان أبدا.

عندما تزوجت وأنجبت لم أتطرق مطلقا للحديث عن هذه النقطة مع أطفالي، حيث إني لم أسمع هذه الكلمة مطلقا إلا عندما كنت في المرحلة الثانوية، ولم أعي معنى العنصرية إلا حينها، حيث ارتبطت لدي بالتفرقة بين السود والبيض في أمريكا وفي جنوب إفريقيا؛ هذه كانت كل معلوماتي عن العنصرية، التفرقة بين البيض والسود فقط لا غير.

لم يدر ببالي أن اتناقش مع أطفالي حول مفهوم هذه الكلمة أبدا، ظنا مني أنها أكبر من إستيعاب عقولهم الصغيرة.

وبما أنني أعيش في دولة خليجية – البحرين- يكثر فيها الأعراق والأجناس والأديان أكثر من مصر بكثير، فتخيلت أن طبيعة الحياه هنا كفيلة بمحو الأفكار العنصرية من تفكيرهم حيث التعامل هنا متاح مع الجميع دون تفرقة لأي سبب أو هكذا ظننت.

هنا وفي دول الخليج عموما الهنود والشرق آسيويين منتشرين في كل أنحاء البلاد بكل هوياتهم ودياناتهم وألوانهم وأشكالهم المختلفة.

 

غالبا ما يحدث لك صدمة حضارية وجينية عندما تطأ بقدمك خارج مصر لأول مرة من هول ما ترى مما لم يكن يخطر لك على بال وانت في مصر، لكن ما تنفك أن تعتاد وتتعامل مع مختلف الأنواع والأجناس، حتى إنك في بعض الأحيان تضطر لدراسة لغتاهم أو بعض كلمات منها حتى تستطيع التعامل معهم بسهولة، كما عليك ان تثقف نفسك بأعيادهم إن كان لك منهم أصدقاء حتى تهنئهم فيها كما يفعلون معك في أعيادك.

اما بالنسبة لمن ولدوا هنا أو جاءوا إلى دول الخليج أطفالا صغارا، فإنهم يعتادون ما نشأوا عليه من الاختلاط بكل أنواع البشر وأجناسهم وألسنتهم ..الخ

ابنتي الوسطى تبلغ من العمر 8 سنوات وتتمتع بعنصرية ليس لها مبرر في هذه السن الصغيرة، جاءت معي إلى البحرين في عمر ثلاث سنوات، حيث التحقت بالمدرسة مباشرة في هذه السن الصغيرة وتعلمت اللهجة البحرينية قبل اللهجة المصرية لوجود أطفال بحرينيين معها في الصف وتعلمت اللغة الانجليزية، ذات اللهجة الهندية قبل مثيلتها ذات اللهجة البريطانية بحكم وجود عدد كبير من معلماتها وزملائها من الهنود.

يوما ما منذ ثلاث سنوات باغتتني ابنتي، باستهجانها لزيارتي لجارتي الهندية والسؤال عنها بعدما وضعت مولدها الثاني قائلة بنبرة متعالية قميئة: \”مش عايزاكي تصاحبي الناس دول يا مامي، دول هنود\”

سألتها إن كان ابنهم المهذب قد أذاها أثناء اللعب معه، فنفت، فقلت : \”طب إيه المشكلة يا حبيبتي في إنهم هنود؟\”

قالت لي إن زملائها البحرينين قالوا لها إن الهنود ما هم إلا خدم ذوو رائحة كريهة.

نهرتها يومها فقد هالني ما سمعت منها ولم أكن أتوقع سماعه يوما، وحاولت التوضيح لها بشتى الطرق إن الهنود مثلهم مثل المصريين أو البحرييين أو الإنجليز بشر عاديين جدا.. منهم الخادم ومنهم المدير ومنهم الطبيب، مذكرة إياها بأن من عالجها يوما ما من ارتجاج مخ أصابها أثر وقوعها من الطابق الثاني كان طبيبا هنديا كبيرا وماهرا. سكتت ابنتي وقتها وتعاملت مع الموقف بهدوء، بل وتجاهلته تماما ظنا مني أنها اقتنعت أو هكذا بدا لي.

يوما آخر، درست باللغة الإنجليزية كلمة \”كنيسة\” وسألتني عن معاناها، فأوضحت لها، أنها مكان عبادة المسيحيين، كالمسجد بالنسبة للمسلمين وكان عمرها وقتها لم يتجاوز الست سنوات وكانت هذه أول مرة تعرف أن على الأرض بشرا أخرين يدينون بديانة أخرى غير ديانتها.. لم تسأل كثيرا يومها، وفضلت ألا أخوض معها في تفاصيل لا تفهمها، كل ما قلته لها إنهم أناس مثلنا تماما، لهم  مكان يتعبدون فيه مثل المسجد لدينا، ولهم كتاب مثل القرآن اسمه الإنجيل، ولهم رسول مثل سيدنا محمد على الصلاة والسلام، جاء قبله اسمه سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام.

فكان سؤالها المباغت لي: \”يعني دول ناس حلوين ولا وحشين؟\” أجبتها: \”حلوين طبعا يا حبيبتي، زي ما إنتي مصرية وصديقتك عراقية مين فيكم حلوة ومين وحشة؟\” قالت لي: \”إحنا الإتنين حلوين\”قلت لها: \”خلاص هم كمان حلوين زي الهنود وزي البحرينيين وزي كل الناس، الناس كلها حلوين يا حبيبتي\”سكتت ابنتي وعدى الموقف بسلام أو هكذا بدا لي.

موقف أخر عندما، كان عمرها لا يتجاوز الخمس سنوات أيضا، رزقني الله سيدة سريلانكية فاضلة  تساعدني في أعمال المنزل وما أن رأتها ابنتي لأول مرة حتى رفضت تماما أن تسلم عليها قائلة لي: \” دي سودة يا مامي،  انا مش بحب الإسودين\”

نهرتها طبعا خوفا أن تسمع أو تفهم \”سارينا\” ما قالته وتخشى على نفسها من العمل في هذا البيت العنصري.. نهرتها ولكن بلطف حتى لا تأخذ موقفا معاديا من \”سارينا\” هذه السيدة العجوز الرقيقة  والتي رزقني الله بها لتخفف عني أعباء المنزل لمدة ثلاث سنوات كاملة كانت فيهم نعم العون ونعم الرفيقة.

يومها شرحت لابنتي أن الله قد خلق كل أنواع وأجناس وألوان البشر وأن لا أحد له دخل في لون بشرته أو اختيار وطنه أو لغته أو حتى أبويه، فربما كانت ابنتي هي السوداء والآخرين يتمتعون ببشرة بيضاء نقية، وسألتها حينها عما ممكن أن تشعر به من استهجان البعض لها وابتعادهم عنها، وهل تحب أن تكون في موقف يعايرها فيه الآخرون ويرفضون وجودها في حياتهم بسبب شيء خارج عن  إرادتها؟

يومها سكتت ابنتي واعتذرت، لكنها كانت تتعمد ألا تنظر إلى \”سارينا\” كثيرا، وتتعمد أن لا توجه إليها أي كلام وتجيب عن اسئلتها بكلمة أو كلمتين في اقتضاب سريع، ولما لاحظت أنا ذلك سألت سارينا عن معنى كلمة \”جدة\”  في لغتها السيلانية أو الهندية فقالت لي إن \”دادا\” تعني \”جدة\”.. جمعت أولادي وطلبت منهم ألا ينادوها ثانية باسمها مجردا، وأن عليهم أن ينادوها \”دادا سارينا\” أو \”دادا فقط، لأن سارينا جدة فعلا، وعمرها يقارب عمر جدتهم، فلا مانع من أن يقولوا لها \”تيتة\” بلغتها حتى يسعدوها بهذه الكلمة ويشعروها بأنها فرد من أفراد الأسرة.

وكان لهذه الكلمة فعل السحر على أطفالي وعلى سارينا ذاتها حيث قربت بينهم إلى حد كبير، حتى إن إعتراض وإمتعاض ابنتي بدأ يقل وبدأت تتقبل فكرة جلوس سارينا معنا على طاولة الطعام أو معنا في غرفة المعيشة كواحدة منا، مثلها مثل جدتها وأخيرا احبت ابنتي سارينا بعدما لمست منها حنانا حقيقيا كحنان جدتها لها وبعدما أغرقتها سارينا بهدايا جميلة حبا فيها دون أن اخبرها بان ابنتي لم تكن تتقبلها بسبب سواد بشرتها، ربما شعرت بذلك ولم تبح، ربما فهمت كلمات ابنتي حيث كانت تجيد سبع لغات، وربما لم تفهم كلماتها لأنها باللهجة المصرية التي لم تعرفها سارينا قط.

انتهت قصة ابنتي مع سارينا وخيل لي أنها اقتنعت بكلماتي أو هكذا بدا لي.

مرت ثلاث سنوات لطيفة مع ابنتي لم يحدث أن شعرت أنها مازالت على عنصريتها، حتى دار بينها وبين أخيها حوارا أمامي عن معلمة ما في مدرستهم فسألها إبني مستفسرا ضاحكا :\”مش دي التيتشر المحروقة ؟\”

 

ردت عليه ضاحكة: \” ايوة هي دي\”

سألتهم بتعجب عما يضحكهم في كون المعلمة مصابة  بحرق ما ؟!فأوضحوا لي أنها ليست محترقة ولكن لون بشرتها أسود والأطفال في المدرسة مسمينها محروقة.

نهرتهم بشدة قائلة إن هذه عنصرية وأنهم هكذا أطفال عنصريين.

وكانت أول مرة يسمعون فيها هذه الكلمة وسألوني عن معناها، شرحت لهم المعنى بتوسع ودار بيني وبينهما حديثً طويلا هادئا عن هذا الموضوع خرجنا منه بوعدهم إياي ألا يكررون السخرية من أي شخص أيا كان  وألا يكونوا عنصريين أبدا.. فرحت أنهم اقتنعوا أو هكذ بدا لي.

مر حوالي شهرا هادئا، حتى جاءتني ابنتي أمس تبادرني بمعلومة لم أطلبها منها قائلة: \” مامي انتي عارفة إن التيتشر بتاعتي مسيحية – قالت كلمتها وعلى وجهها إمتعاض لا داعي له-

سألتها بهدوء: \” وفيها إيه مش فاهمة ؟\”

– أصل انا مش بحب المسيحيين – مش بتحبي المسيحين ليه ؟! – معرفش كدة وخلاص مش عايزة أحبهم. – ايوة يعني انتي كنتي شوفتي مسيحيين فين عشان تحبيهم ولا تكرهيهم؟ ثم إنتي كنتي لحد إمبارح بس بتحبي التيتشر، إيه اللي حصل انهاردة ؟- لما عرفت بقى إنها مسيحية خلاص ما بقيتش بحبها. قلت لها بنبرة خبيثة: \”خلاص براحتك إنتي حرة بس كدة ربنا مش هايحبك لما يعرف إن انتِ مش بتحبي الناس اللي هو خلقهم وإبقي فكريني أقول لطنط أليس – صديقتنا الجنوب افريقية المسيحية – إنك مش بتحبيها. – لا أنا بحب طنط إليس جدا.. دي عسولة خالص يا مامي. – لا ما ينفعش بقى تحبيها أصلها مسيحية. صُدمت ابنتي وفتحت عينيها، وفغرت فاها كأفلام الكارتون، غير مصدقة ما أنزلته على مسامعها من خبر صادم، سكتت قليلا لتستوعب الصدمة ثم نطقت : \”بصراحة أنا بحب طنط أليس وبحب التيتشر بتاعتي.. ومش هافكر بقى في الموضوع دة عشان أفضل احبهم.. بس أنا ما بحبش إلياس.. هه بس. – هو انتِ لازم يكون فيه حد ما بتحبيهوش وخلاص .. ماله إلياس كمان ؟

– أصله تخين

– يا ستي وإحنا مالنا تخين ولا رفيع؟.- لا مش تخين بس .. دة شيعي كمان.

– يادي النيلة وإحنا مالنا  يا بنتي شيعي ولا مش شيعي بطلي عنصرية  بقى.

– وكمان شقي جدا وبيضرب الولاد في الباص.. هه بس

قلت لها بجدية وهدوء : \”كدة ممكن دة يكون سبب إنك ماتحبيش إلياس لأن أخلاقه مش كويسة.. إنما تقوليلي تخين أو شيعي.. دي إسمها عنصرية\”.سكتت ابنتي لحظة قبل أن تبادرني قائلة : \” طب أنا ما بحبش خديجة عشان بتكذب كتير، وما بحبش دينا عشان دلوعة ومسرفة جدا، ومابحبش جدو عشان بيغلس عليّ.. حلو كدة ولا أنا كدة عنصرية برضه؟ \” – لا حلو أوي كدة، انتِ كدة مش عنصرية خالص، انتيِ مجنونة ومحتاجة تتعالجي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top