لا أسعى من خلال هذه السطور إلى تسليط الضوء على أهمية الاتصالات كحق جوهري للأفراد لتيسير المعرفة والتعبير والنفاذ للخدمات الصحية وممارسة التنظيم، ولكني أسترجع معكم ذكريات ما حدث من قطع الخدمات لنذكر أنفسنا أن احتكار السلطة للبنية التحتية المشغلة لقطاع الاتصالات مسألة يجب أن تتغير عاجلا أم آجلا وضرورة تطوير البنية القانونية المنظمة للاتصالات والأبعاد المتصلة بها مثل الخصوصية والنفاذ للمعلومات.
بحكم عملي واهتماماتي آنذاك في يناير 2011 كنت منخرطا في جبهة الدفاع عن متظاهري مصر، التي كانت مكونة من عدد كبير من المنظمات الحقوقية والمحامين والأطباء والباحثين لتقديم الدعم القانوني والطبي للمتظاهرين على مدار شهور قبل ثورة 25، وكنت أساهم في تيسير الاتصالات بين مختلف الأطراف بما في ذلك توثيق المعلومات والتحقق منها والعمل على نظام تقني لتداول الرسائل النصية وتمرير المكالمات وتتبع حالات المتظاهرين منذ الدقائق الأولى للقبض عليهم وتقديم دعم تقني للجميع.
في ذلك الوقت كان رقم تليفوني الشخصي من ضمن أرقام الطوارئ لتلقي البلاغات وتقديم المتابعات والمعلومات. في الأيام التحضيرية قبل 25 يناير لم أكن أتوقع سيناريوهات موسعة لقطع الاتصالات ولكن في كل الأحوال كنا دائما نقوم بتحضير خطة بديلة من باب الاحتياط. في الساعات الأولى من صباح يوم 25 يناير تم حجب موقع تويتر للتدوين المصغر وموقع بامبوزر للبث المباشر، وعادوا العمل بشكل محدود مؤقتا ظهر يوم 26 يناير، وفي ظهر يوم 25 بدأت السلطات في استهداف أرقام تليفونات مختلفة بوقف الخدمة ومن بينها كان رقم تليفوني الشخصي وأرقام زملائي وقتها، وممثلي خدمة العملاء في شركتي فودافون وموبينيل أفصحوا عن الحقيقة بعد محاولات لفهم ما حدث وقالوا في آخر المطاف: تعليمات أمنية بقطع الخدمة عن مجموعة عملاء. بدأت في الجبهة في تفعيل خطوط محمول أخرى حتى نستطيع التواصل مع المتظاهرين وتيسير الاتصالات، ولاحظت وقتها أنه بمجرد قيامي والآخرين بنشر الأرقام على الإنترنت تم قطع الخدمة عن الأرقام الجديدة أيضا. أدركت وقتها أننا مراقبون عن كثب باستمرار وأن السلطة تحاول بجهد السيطرة على حركة المعلومات. علمت في تلك الفترة أنه سيتم التوسع في قطع خدمات الاتصالات المختلفة.
وعلى مدار يوم 26 تم حجب موقع فيسبوك ووقف خدمات بلاك بيري، وابتداء من مساء يوم 27 يناير بدأ وقف الرسائل النصية القصيرة عبر شركات الهواتف المحمولة وخدمة الإنترنت من أغلب مقدمي خدمات الاتصالات. في يوم 28 يناير تم وقف المكالمات الصوتية في الشركات المحمولة ووقف الخطوط اﻷرضية في بعض المناطق لمدة ساعات. وفي يوم 31 يناير تم قطع خدمة الإنترنت عن آخر مقدمة خدمة. وفي يوم 2 فبراير عادت خدمة الإنترنت وعادت خدمة الرسائل النصية لاحقا يوم 5 فبراير.
لم يكن يشعر جميع مستخدمي الاتصالات بإجراءات وقف الخدمات والحجب في نفس الوقت، وذلك ﻷن قطع الاتصالات بشكل عام من يتكون من قرار سياسي مركزي زائد إجراءات تقنية غير مركزية لتنفيذ القرار على كل خدمة. وقف خدمات الاتصالات يتم تقنيا بشكل تدريجي على مدار ساعات وفقا لنسبة المستخدمين لكل الخدمة. فعلى سبيل المثال المدة الزمنية المطلوبة لوقف خدمات بلاك بيري أقصر بكثير من المدة الزمنية المطلوبة لوقف خدمة الرسائل النصية القصيرة وهكذا.
بالنسبة للقرار السياسي، وفقا لشهادات منفصلة عايشت تشكيل وتنفيذ القرار، فلقد تم الإعداد للقطع والحجب أيام قبل 25 يناير وتم التنسيق مع شركات المحمول ومقدمي خدمات الإنترنت للاستعداد لفصل الخدمات، ولم يتبق سوى التنفيذ الفعلي. ووفقا للشهادات المختلفة فإن اغلب التنسيق ما بين السلطة والشركات والإخطار داخل الشركات للموظفين تم ما بين يوم 19 و24 يناير، وهذا يعني أن كبار الموظفي في الشركات كانوا على علم مسبق. فمن ناحية ممكن اعتبارهم شركاء في الجريمة ومن ناحية أخرى يمكن اعتبارهم \”مجبرين\” وفقا للتراخيص القانونية التي يعملون وفقا لها والتي تعتبر سرية ولا نعلم أي شيء عن تلك التصاريح.
قبل ثورة 25 يناير لم نشهد نشاطا مكثفا لقطع الخدمات وحجب المواقع. فلقد حدثت على نطاق ضيق نسبيا في أحداث متفرقة مثل حجب مجموعة مواقع في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2010 والإعادة في ديسمبر 2010، وأحداث 6 أبريل 2008 في المحلة الكبرى. ولكن من المحتمل أن نشهد نشاطا نسبيا في حجب المواقع على مدار العام الحالي مثل حجب موقع العربي الجديد الإخباري الذي بدأ منذ أسابيع قليلة.
المسئولون في قطاعات الأمن والاتصالات والقائمون على التشريع عليهم استيعاب مجموعة دروس من واقع تجربتنا وتجارب مختلف الدول:
1- الحجب والرقابة اثبتوا فشلهم في الدول اللي فرضتهما. ودائما يقوم المواطنون بتطوير مهارات لممارسة حقهم في المعلومات والمعرفة والنشر والتنظيم.
2- حجب المواقع والمحتوى مسألة تقنية غير ممكنة على نحو مطلق. وتجارب الدول في الحجب لمكافحة الجرائم أثبتت عدم جدواها، مع العلم أنه يوجد العديد من الطرق للنفاذ للمحتوى ولإعادة بث المحتوى وإتاحته.
3- الحجب كإجراء مضر جدا بمواردنا الشبكية والمالية والاقتصاد الرقمي.
4- التعامل مع الجرائم من منطلق التوسع في الرقابة وفرض الحجب وقيود في الاتصالات لن يساهم في تحقيق ومعالجة الأمن.
5- في أوقات الأزمات السياسية أو الكوارث الطبيعية يجب تحرير كل الاتصالات من القيود وإتاحة جميع الاتصالات بدون مقابل مادي من منطلق تعزيز قدرة المواطنين على طلب الدعم الطبي واللجوء للمساعدة بدون قيود والقدرة على الاتصال بالأقارب والأهل. قطع الاتصالات في فترة 25 يناير أعاق وصول المرضي والمصابين لتلقي الدعم اللازم وفي بعض الحالات وفقا لشهادات متنوعة أدت إلى الوفاة، سواء حالات من مصابي الثورة أو حالات غير مرتبطة بالسياق السياسي أصلا.
6- الحجب يجب أن يكون ممنوعا في جميع الأحوال وكل الظروف. قطع الاتصالات والمراقبة يجب أن يكونا وفقا لضوابط وحدود جغرافية وزمنية استنادا لمبادئ التناسب والمشروعية والضرورة.
– يمكن الاطلاع على رسمة التسلسل الزمني لقطع خدمات الاتصالات أثناء ثورة 25 يناير وتنزيلها بأحجام مختلفة من خلال الرابط التالي: https://flic.kr/p/De6g5S.
– تابع الكاتب على تويتر.