قال بائساً: الثورة ماتت.
أشعلتُ سجارتى ولبستُ ذاك البارد، الذى ابدوهُ عندما أنظر للواقع من هضبةٍ عالية، وكأنى لستُ جزءً من وساختهِ، قلت: بالعكس،الثورة بدأت.
قال: أنت حالم.. لا لا أنت واهم.
قلت: لأكن ما تريد، لكن دعنا ننسلخ من الواقع، كأننا ما رأينا جثثا فى الشوارع، كأنها لكلاب قتلها المجلس المحلى تلبية لشكوى المواطنين، أو كأننا لم نلمس الأمل بأيدينا ففجعنا اليأس، أو كأن الشروخ فى صدورنا مجرد آثار بالية لجرح عاطفى، فلنكن كائنات غير ارضية قابعة فى محطة فضائية تدور حول كوكب مجهول، نشاهد فيلماً تسجيليا يدعى: الواقع المصرى.
دعنا نقارن الصَخب الجارى بعد الثورة، أو بعد فشل الثورة كما تحب أن يُدعى، دعنا نقارنهُ بالجسد الميت الذى كان أقرب إلى التحلل منه إلى المَرض، صار الجسد المريض بعد الثورة يضع يدهُ على مواضع الألم، يضربها بالإبر وبالصدمات الكهربية، هذا جسدٌ حى، يقاوم بالسخرية وينتفض بالذكريات التى تحفظها لنا التكنولوجيا صوتا وصورا، لا سبيل للإلتفاف على العصر الذى يذكرك فيه الفيسبوك بدماء من سقطوا وأخطاء من أخطأوا وخيانة من خانوا، لا مجال لتزوير التاريخ، فالسلطان يستطيع تغيير المناهج الدراسية، لكن الحقيقة لم تعد تحتاج لرواةٍ وسلاطين، صارت محفوظة بحكم التكنولوجيا، ربما هذا آخر عهدنا بآفة حارتنا، وهنا اذكر مقولة قيمة لجورج أوريل: لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا.
فالثورة الأولى، أو الموجة الأولى للثورة، هى وعى المريض بالداء، لكنه لا يعرفُ مرضه ولا علاجه، كل ما يعرفه أنه لا يعرف كيف يكف عن الصراخ، ثم عرف المريض تشخيصه، وهذا ما نحن فيه الآن، ثورة وعى تجتاح العقول، المجتمع يتفتحُ من جديد، المجتمع يشكل وعيه من جديد، يثور على التقاليد، القراءة صارت موضة! كثيرون يسخرون من هذا الصنيع، لكنه على المدى البعيد سيُشيد عقولا ويخلق مُبدعين.
على الجانب الآخر، كشف المدَّعون عن وجوههم الحقيقة بكل وقاحة، فرأينا على جباههم ختم النفاق وميزناهم عن غيرهم، من مُطربك الفضَّل الذى طالما غنىَّ للحرية فى الحدوتة المصرية، مرورا بكاتبك المُفضَّل الذى طالما اشتريت جريدة الدستور لتطَّلع على مقاله الموزون الجريء فى الصفحة الأولى حين كان رئيساً لتحريرها و\”حمالاتٍ\” تمرن بها عقلك على النقد، إلى فنانك المُفضَّل الذى طالما نادى بالقيم \”المعلَّبة\” حتى اعتبرناه فارسا بلا جواد، سقطوا جميعا، وعرفت أنك لم تتعثر فى ثورتك إلا لأنك كنت ستكرم هؤلاء طوال عمرك.
نعم.. كان الثمن باهظا، لكن الحقيقة دائما غالية الثمن.. نعم تعثَّرت الثورة، لكنها مُستمرة فى حالة السُخط الدائم والوعى المتيقظ الذى تشهده مصر، فإن نضجت ثمار ثورة الوعى، فالتغيير آتٍ لا محالة، فنحن لن نخرج فى مليونيات لنُسقط الفاسدين، وندور دورة كاملة لنطلق سراح مأجورين، لن نحتفى بالجاهلين لأنهم اتفقوا معنا فى سطر وحيد أنهم سيتركوننا فى باقى القصيدة، فالحل ليس فى الموت فرادى، وليس بالاتحاد مع العميان، الحل فى إضاءة العقول، لتجد الثورة الحتمية، جسر العبور ممتدا أمامها.
قال: عُد من محطتك الفضائية، واشرب معى نَخب الهزيمة.