كان يُحدِّق فى ساعة رقمية على الجدار، كانت تُشير إلى وقت عجزت عيناه المثقلتان بالهموم واليأس تحديدهِ، كأن عليها ضباب الشتاء.
وكان قبل الشتاء ربيع، حلقة فى مسجد ونبع أخلاق ينهلُ منه الناهلون، وقِصص تُقصّ من مُعلم باسم الوجه مُشرقهُ، قصص ممتعة لأنه كنا يجهلها. سأل المُعلم: كيف عرفت هذهِ القصص؟
أخذه المُعلِّم تحت جناحهِ الحانى حتى شجرة كبيرة، رفع ذراعه وأمسك بورقة خضراء. قال: لولا الجذور فى الأرض ما كانت الورقة.
وأهداه كتاباُ عن جذوره، فعرف أنَّه سَليل عزّ مُهان، وأنّه مُكلّف لإزاحة الغبار عن معدنه الثمين، ليبرقّ بلونه البراّق، ليصمد فى وجه الخريف.
وكان قبل الخريف صيف، تظاهرات وشهداءٌ ونصر، وحلمٌ يكسر حواجز المستحيل ويستقر على عرشهِ، كأنه بيد الله مُساقا.
اختفى المُعلم، وترك له رسالة: إفعل ما تؤمر.
وكان فى الصيف جدل وتَفاخر وخِصَام، فقرأ أشجارًا أخرى خبأها عنه المُعلّم، وظن بحسن نيته وسذاجته ونُبل قِيَمِهِ أنه كان يجهلها، لمس أوراقها، ومَسَّ جذورها، فتأخرت فى قلبه نبضة.
وكان الخريف يحملُ السَموم بين طيات العاصِفة، فتساقطت أوراق شجرته، فإذ هى عجوزٌ عارية لا نهدين فى صدرها ولا نبضّ فى الوريد، وبقي وحده فى وجه الريح صامدًا، مرهقًا، غير مدركٍ لأسباب العاصفة، يراقب من فرعه العالى أَعمارًا توأد فى مَهْدها وحُلمًا يُنتزع عن عرشهِ إلى قعر هاوية، كأنه بيد الله مُساق.
وتذَّكره المُعلم الذى غارد الشجرة فى إصيصٍ صناعىّ، بعد طول نسيان، قال له: لا تختبئ خلف الغصن، إرفع عنقك لتقصمه العاصفة.
قام بعمليات نوعية سخيفة طفولية، لا تأثير لها ولا قيمة، طنين ذبابة عمياء، قام بها مع مجموعة شبان غرّ دون دراسة للنتائج، كان يصبّ الماء على غضبهِ ويلمس فى تحركه التمردىّ صفقة تبادل منافع مع المزارع، بينما تراوده أفكار جديدة عن عدد الأشجار فى العالم وعدد الأوراق، وعن وجود مزارع من عدمه وعن قصة أول بذرة وأول شجرة، ولعن المدرسة والمُعلمين والدورس والكتب وبصق على السنوات، وكان يلهث، والجنود يتبعونه حيث لهَث، وعقله يكرِّ ويفرّ ويُقبل ويُدبر، والأصدقاء يسقطون كأوراق الشجر، قتلا وسجنا، وهربَ كثيرًا، وهربَ حتى التّعب ولم يجد للأرض حافة ليقفز ويودّعها، فابتلعه الخريف.
حاول التركيز فى الجدار، ثم بدأ يُسلّط نظرة حادّة على الساعة، كانت تُشير إلى أصفار، أو خمسات، أو تسعات، أو ستات، وكان العدل خلف القاضى أساسا للملك العضَوض، وكانت أُمُّه تراه خلف القُضبان طفلا لم ينعم بعد باللهو والحب والجنس والخسارة والربح والهجرة والحنين، وكان الله حاضرًا فى القاعة بآيةٍ من قرآنهِ تقول (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وكانت أُمُّه تُكلّمُ ربَّها وكان ربُّ القاضى يكلّمه، وكان يحدقّ فى ساعة على الجدار.