د. يوسف أحمد الأيمن يكتب: مؤامرتنا على الإسلام

أعتقد أنني قد سمعت تعبيرات (مؤامرة على الإسلام) أو (حملة ضد الإسلام) خلال الأيام السابقة ما لا يقل عن عشرين مرة في مواضع مختلفة من أفراد مختلفين، بالتزامن طبعا مع أحداث جارية متتابعة متعلقة بأمور دينية، بدء بمواقف جدلية لشيخ الأزهر وتصريحات أخرى لأحد رجاله، أو أفراد مثل إسلام البحيري والمؤرخ الأديب يوسف زيدان.

المثير في مثل هذه التعبيرات أنها تعبّر عن تصور لمؤامرة جماعية موجهة، بعقلية وتخطيط موحد واتفاق على التفاصيل فيما بين أفرادها، بشكل يوحي بأنهم يجتمعون كل ليلة في كهف مهجور ليتفقوا على ما سيقوم به كل منهم لخدمة المؤامرة في اليوم التالي.

لنكن واضحين وصرحاء مع أنفسنا في الاعتراف بأنه، بالتأكيد، توجد فئات وطبقات وجهات وقوى سياسية وطائفية داخلية أو خارجية لها مصلحة مباشرة في تحجيم الإسلام بصورة أو بأخرى، سواء بتحجيم المسلمين كأفراد أو تحجيم الجماعات والتيارات الإسلامية ككيانات سياسية ومجتمعية أو تحجيم دور المؤسسة الدينية ككيان فاعل أو دور العقيدة نفسها في تنظيم القانون والحياة العامة.
ولكن الحوار فيما يتعلق بهذه المسألة يأخذ منحنى ساذج طفولي جدا في نظري، ووجه السذاجة يتمثل عندي في نقطتين:
أولا: الصيغة المصدومة التي تحملها هذه التعبيرات، من مشاعر الغدر والخيانة، حتى يوشك أصحابها أن يصيحوا كالمطعونين غدرًا (حتى أنت يا بروتوس؟)، ذلك التعبير عن الغيلة والخديعة من فعل حقير غير متوقع وغير مسبوق.
ثانيًا: التصور الكاريكاتيري لدى قائلي هذه التعبيرات، أن أصحاب هذه المواقف تجمعهم دوافع وآراء وأهداف موحدة، تضمهم جميعا في خانة جامعة وتصنيف وحيد تحت عنوان (أعداء الدين) أو (الحاقدين على الإسلام)، ويضم هذا التصنيف غالبا ما لذ وطاب من صنوف الشخصيات العامة سواء إعلاميين كـ(عمرو أديب) أو كتاب ومفكرين كـ(يوسف زيدان) أو (نوال السعداوي) أو رجال دولة مثل وزير الأوقاف. إلخ.

السذاجة في هذين التصورين هو عدم إدراك أن هذه الآراء والمواضيع الجدلية لم تكن أبدا طارئة على الإسلام ولا غريبة عن المسلمين منذ نزول الوحي، وحتى لو اعترفنا بدور قوى مغرضة محرضة لهذه الأحداث، فهذه القوى تجمعها مصالحها معًا تارة وتفرقها تارات، ولم تكن أبدًا تمثل مؤامرة كونية جماعية بهذا الشكل الكرتوني، صحيح أنها صارت أكثر جهرًا وتصادمًا بعد ثورة 25 يناير، لكن هذا لأن الارتفاع المؤقت لسقف الحريات مع الثورة، رفع معه سقف طموحات وتطلعات فرق كُثُر، فصارت أكثر جرأة في التعبير عن رأيها ورفضها للأفكار السائدة، مما نتج عنه استقطاب عنيف بين هذه الفرق وحِدّة أكبر في أسلوب التعبير عن هذه الآراء، لكن هذا لم يكن أبدًا ظاهرة طارئة.

\”هنري لويس لوشاتلييه\”، كان عالمًا علّامة في أواخر القرن التاسع عشر، وأحد أهم واضعي مبادئ علم الكيمياء، منها مجموعة مباديء تحمل اسمه (قاعدة لوشاتلييه) أو \”مبادئ التوازن الكيميائي\”
أحد هذه المبادئ مثلًا، يصف ذوبان المواد في المحاليل، مثل الملح في الماء، فلو أنك حاولت إذابة ملعقة من الملح في الماء، لن تذوب بالكامل، ولابد أن تظل نسبة مهما كانت ضئيلة – ولو 1% – لا تذوب في الماء، لماذا؟ هل ذلك الـ 1% به ما يختلف عن باقي الملح؟ لا في الواقع، هو نفس الملح بنفس التركيب، وأكثر من هذا، أن هذا الـ 1% ليس ثابتًا في الواقع، فبعد فترة وجيزة خمس دقايق يتبادلون موقعهم مع 1% أخرى من الملح! الـ 1% الأولى تذوب ويحل محلها كمية أخرى بديلة كانت ذائبة تعود للتماسك لتأخذ مكان سابقتها!
والأفدح من هذا، أنك لو (عملت فيها \”برم\”) وقمت بتصفية المحلول من الـ 1% المتمردين هؤلاء، فستعود كمية بديلة للتماسك في موضعهم وبنفس نسبة الـ 1% أيضا!
كل التغييرات الممكنة التي يمكن أن تؤثر بها على التجربة، تسخين الماء أو تبريده، وضعه تحت ضغط عالٍ أو منخفض، إضافة مواد أخرى، لن تتجاوز أن تزيد أو تقلل النسبة قليلًا، لكن لا يمكن أن تزول بالكامل، لأن المسألة ليست (قلة مندسة أو متآمرة) على باقي الملح في المحلول، بل هي حالة من التوازن الفاعل بشكل مستمر بين ذرات الملح وبعضها وبين الملح والماء، تسير طوال الوقت في الاتجاهين المتضادين، الذوبان وعدم الذوبان!
لا أعرف إذا كان \”لوشاتلييه\” نفسه قد أدرك مدى انطباق مبادئه وقوانينه على المجتمع نفسه! الحقيقة أنه طوال تاريخ البشرية كان هناك دائمًا ما يطلق عليه (السواد الأعظم mainstream) من المجتمع، الذي يشمل الأفكار السائدة التي يؤمن بها أغلب أفراده كحقائق بديهية مسلم بها، ولا مجال لمناقشتها أو التشكيك فيها، وغالبا يمتد هذا الإيمان لتصور أن هذه الأفكار ليست فقط مسلمات في العصر الحالي، بل هي مسلمات خالدة لم ولن تتغير، ويعجزون عن تصور أن هذه الأفكار لم تكن هي الأفكار السائدة في زمن ماض، أو قد لا تظل سائدة في المستقبل!
وطوال تاريخ البشرية كذلك، كانت هناك (القلة) غير المقتنعة بأفكار السواد الأعظم، التي تعارضها وتحاربها، سواء سرًا أو جهرًا، باللين أو بالعنف، بالقول أو بالفعل، بنوايا إصلاحية أو تخريبية، المهم أنها كانت دائمًا موجودة، بل وكثيرًا ما يحدث أن تنتصر أفكار هذه القلة وتسود لتستبدل السواد القديم، والأديان نفسها بما فيها الإسلام نموذج للقلة التي انتصرت في النهاية على سواد المجتمع لتصبح هي السواد الجديد!
لكن سواد الإسلام أو غيره من الديانات في الحقيقة لم يلغ القاعدة ولن يلغيها، وقد تنوعت النماذج عبر تاريخ المجتمع المسلم نفسه للقلة المخالفة لسواد المجتمع، ومن السخافة والاجحاف – بل مما يتعارض مع مبادئ الإسلام نفسه الذي يرفض الحكم على الضمائر وشق صدور العباد – تفسير هذه القلة باستمرار بمفهوم المؤامرة أو العمالة، بالتأكيد كان من أفرادها من هم ذوي أغراض دنيئة ودوافع نفعية غير شريفة، أو حتى مدفوعين بمجرد حب الظهور وإدعاء الحداثة، لكن في كثير من الأمثلة أيضا تحولت هذه القلة إلى النموذج والقدوة للأجيال التالية.
لن نتبحر بعيدًا في الأمثلة، هناك أكثر من مثال لهذا النموذج منذ بدايات القرن العشرين في مصر مثلا، في ذلك الوقت لم يكن قد وصل للشعب المصري مفهوم أن (الأرض كروية)! النكتة الأكبر هنا أن التاريخ يثبت أن علماء المسلمين هم أول من اكتشف وأثبت كروية الأرض.

في عصور الازدهار الحضاري، ومنقول بها عن ابن تيمية وابن حزم، لكن هذا العلم اندثر من عقول المسلمين في العصور التالية من الضعف والاضمحلال والاستعمار. مما أدى لأن كثيرا من رجال الدين في هذه الفترة كانوا يعتبرون القول بكروية الأرض (كفر) لأنه يخالف قول القرآن!
النماذج الأخرى الأكثر عمقا تشمل الشيخ محمد عبده في نفس العهد، الذي لاحقته اتهامات الزندقة والتفريط في أصول الدين لفترة طويلة قبل أن يصبح فكره محركًا للحياة الدينية والسياسية في العهود التالية، من خلال تلاميذه الحاملين له مثل الزعيم \”سعد زغلول\” والكاتب المفكر الإسلامي \”أحمد أمين\”، ونموذج ثانٍ هو كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي أدى لمحاكمة صاحبه الشيخ (علي عبد الرازق) وطرده من الأزهر، قبل أن يعود إليه ويصبح لاحقا عضوًا في مجلس النواب ووزيرا للأوقاف! ويصير كتابه علامة فاصلة في توصيف الحكم والحياة السياسية في الإسلام.
ولا يشترط أن تكون هذه النماذج (تحررية) متمردة على القيود، بل هناك أمثلة أخرى لنماذج ذات اتجاهات محافظة وأكثر تقيدًا من سائر المجتمع، مثل المد الديني الذي بدأ في السبعينيات، والمد السلفي الذي برز بشكل أكبر مع بداية القرن الجديد وانتشار الفضائيات الدينية وشرائط التسجيل للدعاة، حتى يصعب تصور حقيقة أنه منذ أقل من خمسين عاما كان يصعب أن ترى فتاة واحدة محجبة في مصر، حتى بين زوجات رجال الأزهر وعائلاتهم، وأن أستاذة الشريعة (سعاد صالح) نفسها لم تكن محجبة عند تخرجها!

خلاصة القول إن طوال تاريخ الإسلام كانت هناك حالة مستمرة من الجدل بين سواد الفكر الإسلامي وخواصه، بين أفراده وإجماعه، ومن المؤكد أنه كان هناك ارتباط إيجابي بين الطريقة اللي يتعامل بها المجتمع مع الأفكار المخالفة ودرجة تقبله للحوار والأخذ والرد حولها من ناحية، وبين تحضر المجتمع ونهضته من ناحية أخرى، وأن المسلمين لم يشقّ عليهم احتضان أصحاب أكثر الأفكار شططا بمقاييس زمنها في عصور نهضتهم، لن ادخل في أمثلة معقدة، لكن لو اسقطنا على الجدال الهائج حاليا على التصريحات الخاصة (بكفر) المسيحيين من عدمه، فمن الضروري أن نفهم أنه كان هناك منذ العصور المبكرة للإسلام من لم يعتقد بفكرة تكفير أهل الكتاب على عمومهم أو أنهم جميعًا يشتركون في مصير عذاب الآخرة، وأن التكفير يشمل فقط من حرف الكتاب على علم بالحق أو من عرف أنه الحق وأنكره، أما من وصله التحريف على غير علم فلا يشمله تعريف الكفر، وكان ممن قالوا بهذا فيلسوف الإسلام \”أبو حامد الغزالي\”، وأيضا الشيخ \”محمود شلتوت\” شيخ الأزهر السابق الغني عن التعريف، وعبر عنه أيضا د. مصطفى محمود في كتاباته، وطبعا لك مطلق الحق في أن ترفض هذا الرأي وتستنكره، وتصر على أن كل من هو غير مسلم صراحًا هو كافر صراحًا، ليس هذا بيت القصيد، ولكن المشكلة أن نظرتك وتفسيرك للأمور يعني أن (أبو حامد الغزالي) و(محمود شلتوت) و(مصطفى محمود) هم متآمرون على الإسلام يريدون هدمه! وهذا يعني أننا في أزمة حقيقية من حيث الحاجة للاتفاق على تعريف الإسلام والمسلمين أصلًا!

عزيزي المسلم المعاصر من أهل السواد الأعظم: أنت لا تدرك ما أنت به من ورطة، أنت في عصر ثورة المعلومات كما يقولون، بمعنى أن أي طفل معه جهاز محمول في النصف الآخر للكرة الأرضية قد يكتب (بوست) أو يضع فيديو يبلبل أفكارك ويتحدى معتقداتك، في السابق كانت هناك رقابة واختيار من القنوات الإعلامية للمحتوى الذي يصلك لكي يحميك من تلك المسائل الجدلية التي تقلق منامك، الآن كله (سداح مداح) كما يقولون ولا ساتر لك إلا الله، والمشكلة أن تصرفك (كالطفل الممسوس) الذي يصرخ (مؤامرة على الإسلام) كلما مسه أحد، جعل مجال الجدل مغلقا ومنفرا للذين قد يحملون فكرًا مثمرًا حقًا، وعلى النقيض أكثر جذبًا لهواة الشطط ومحبي الظهور والحداثة الفارغة.

أطلقْت صرخة المؤامرة الأولى على (علي عبد الرازق) و(طه حسين) و(فرج فودة) و(نجيب محفوظ)، فبرز لك (نصر حامد أبو زيد) و(سلمان رشدي) و(جمال البنا)، وصرخْتها للمرة الثانية فوجدت أمامك (أيان هيرشي علي) و(إرشاد مانجي) و(علياء المهدي)، لم يعجبك الجدل المحدود حول صحيح البخاري والتاريخ الإسلامي والحجاب والنقاب على صفحات جريدة محدودة الانتشار مثل \”الدستور\” قبل الثورة، فتصدر لك (يوسف زيدان) و(إسلام البحيري) و(سعد الدين الهلالي) ليعبثوا بأفكارك بشكلٍ قاسٍ على الفضائيات بعد الثورة.

متى تكبر وتتعقل لتدرك حقيقة أنك لست الطالب الوحيد في الفصل، وأنك لم تكن ولن تكون أبدًا الوحيد، وأن طريقة الأطفال هذه تخسرك أرضًا لا تكسبك، وأن الـ 1% باقية أبد الدهر، وأنك أنت الـ 99%، وكان أحق بالـ 1% أن تخشى الذوبان!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top